مُلاحَظ أن القضية الفلسطينية ليست حاضرة في الحُمّى الانتخابية الأميركية، ولم نسمع حتى الآن سِجالاً بين المُرشّحين الأميركيين حول حل القضية الفلسطينية وإنهاء الصِراع العربي الإسرائيلي. دأب المُرشّحون الأميركيون لمنصب الرئاسة على إظهار رؤيتهم لحل الصِراع العربي الإسرائيلي، وكانوا دائماً حذرين بطرح الحلول حتى لا يتكلف المُرشّح ثمناً باهظاً بخاصة من جانب القوى اليهودية والصهيونية في الولايات المتحدة. كان كل مُرشّح للرئاسة على وعي بقوة الجمعيات اليهودية والصهيونية، وقدرتها على التأثير بآراء الناخبين وتوجّهاتهم الانتخابية لما تملكه من آلة إعلامية ضخمة وقدرات مالية لا بأس بها.
لكن المُلاحَظ أيضاً أن إسرائيل موجودة على البرنامج الانتخابي لكلا المُرشّحين، وكل منهما يؤكّد على التحالف الاستراتيجي بين دولته وإسرائيل، ويؤكّد على الترابُط التاريخي الثقافي والفكري بين العهدين القديم والجديد، وعلى ضرورة استمرار الدعم المالي والدبلوماسي لإسرائيل. وركّز كل من المُرشّحين على دعم أمن إسرائيل وتكريس الجهود الأميركية الأمنية والعسكرية للمحافظة على أمنها واستقرارها، واستمرار تفّوقها العسكري على كل أعدائها مُنفردين ومُجتمعين. لقد جرّب العرب هيلاري كلينتون عندما كانت وزيرة للخارجية الأميركية ورأوا شدّة حرصها على إسرائيل ودعمها للإرهاب الصهيوني ضدّ العرب، أما ترامب فيبدو أنه صاحب موقف سلبي من الأقليات في أميركا، لكنه لم يتطرّق إلى اليهود كأقلية مشمولة بهذا الموقف.
القضية الفلسطينية غائبة، أما إسرائيل فحاضرة والسبب واضح. أصحاب القضية الفلسطينية غائبون، وأصحاب إسرائيل حاضرون ويراقبون ويتتبّعون ويحشدون القوى والطاقات ويُعدّون لاستنفار المؤيّدين وزَجر المُعارِضين.
مكانة القضية الفلسطينية تراجعت بصورة حادّة على المستويات الفلسطينية والعربية والإسلامية والعالمية، ولم يعد فيها اهتمام كبير كما كان في السابق من الأيام. تأثّرت القضية الفلسطينية كثيراً عقب اتفاق أوسلو الذي اعترف الفلسطينيون بموجبه بالكيان الصهيوني كدولة، وبدأوا يُنسّقون معه أمنياً ويلاحقون الفلسطينيين الذين يتعرّضون لأمنه. لقد فتح الفلسطينيون باباً واسعاً أمام العديد من الدول بخاصة العربية للخروج من مأزق القضية ولسان حالها يقول باستمرار: إذا كان أصحاب القضية قد اعترفوا بإسرائيل وأخذوا يتعاونون معها في كافة المجالات، فإن علينا ألا نكون فلسطينيين أكثر من الفلسطينيين. والدولة الوحيدة التي صمدت حتى الآن لتكون فلسطينية أكثر من الفلسطينيين هي إيران. تهافت العرب بعد أوسلو إلى إقامة علاقات مع إسرائيل والتنسيق معها بخاصة في ما يتعلّق بالقضايا الأمنية ضدّ المقاومة العربية في فلسطين ولبنان. لقد ضربوا فلسطين والمُقدّسات بعرض الحائط ولم تعد تهمّهم قِيَماً قومية أو وطنية أو دينية.
لم يعد الأمن الإسرائيلي في مأزق، ولم يعد الفلسطينيون نشطاء على الساحة الدولية لحشد الدول خلف حقوقهم الوطنية الثابتة وأغلب نشاطات القيادة الفلسطينية غير الشرعية تتركّز الآن حول جلب استعطاف إسرائيل وأميركا من خلال تصرّفات وسياسات ترضى عنها إسرائيل وأميركا، والحصول على قرارات دولية ذات أبعاد رمزية أكثر منها عملية. حضر عبّاس جنازة بيريس في تحدٍ واضح لمشاعِر الشعب الفلسطيني، وتم الثناء عليه ومديحه، وقال في إحدى كلماته إنه لا حق له في العودة إلى صفد التي هي مسقط رأسه، لكن له الحق أن يزورها سائحاً، وقال إن التنسيق الأمني مع إسرائيل مُقدّس، الخ. مثل هذه التصريحات والأفعال تهدم القضية الفلسطينية وتُعطي العالم انطباعاً أن مشكلة الفلسطينيين مع إسرائيل لم تعد قائمة، ولا تحتاج إلى مواقف دولية وطرح مُبادرات، الخ.
لا يختلف الأمر في الولايات المتحدة عنه في دول أخرى. النشاطات العسكرية الفلسطينية اليومية لم تعد قائمة، والمقاومة الفلسطينية في حال ركود، بل هي تتعرّض للملاحقة من قِبَل الفلسطينيين أنفسهم. وإذا كان هناك نشاطات عسكرية واسعة فإن إسرائيل هي التي تُبادر إلى إشعالها كما حصل ضدّ غزّة عام 2008/2009 وعامي 2012 و 2014. لا توجد أحداث في الضفة الغربية ذات وزن كبير تصنع أزمة لإسرائيل أو تُهدّد استقرار المنطقة، والشعب الفلسطيني في الضفة الغربية، وفق تقييم الأميركيين، يتعايش مع الاحتلال والحياة تسير بصورة رتيبة. إذن لا ضرورة للاهتمام بقضية تبدو أنها أشرفت على الحل، ولم تعد تشكّل مصدر توتّر في المنطقة. وذات المنطق ينسحب على البلدان العربية من حيث أن هذه البلدان لم تعد مشغولة بالقضية، وأصبحت مشغولة بقضايا أخرى. مصر مثلاً مشغولة بمياه النيل وسدّ النهضة، وسوريا أُشغلت بهمومها الداخلية وكذلك العراق، ودول الخليج مشغولة بصناعة الفِتَن بين السنّة والشيعة، وبالاستعداد للحرب على إيران بالتعاون مع إسرائيل، والشمال الأفريقي لديه ما يكفيه من الهموم أي أن البيئتين الفلسطينية والعربية لم تعودا بيئتين صالحتين لاحتضان القضية الفلسطينية، الأمر الذي يؤثّر على الخطاب السياسي في الولايات المتحدة وغيرها من الدول.
(لو) ركّز الفلسطينيون على صناعة الأزمة لاستقطاب الاهتمام الدولي لحقّقوا خطوات واسعة نحو مُراكمة ضغط دولي على إسرائيل. لكن طريقهم الاستعطافية غير المسنودة بقوة مُعتبرة يحمون بها ظهورهم أودت بهم إلى مهاوي النسيان أو التجاهل. ويلوح في الأفق دائماً السؤال: مَن مِن الفلسطينيين يتمكّن من صناعة أزمة تستقطب العالم وتُعيد للقضية الفلسطينية مكانتها؟ القيادة الفلسطينية لا يمكن أن تقوم بهذا لأنها تستثير مَن لا تريد أن تستثيرهم، وتفسد على نفسها استراتيجيتها الاستعطافية. غزّة هي الطرف الفلسطيني الوحيد المؤهّل لصناعة أزمة تستقطب اهتمام العالم بالقضية من جديد، لكن الحصار المُشدّد يؤثّر على التفكير الإبداعي لدى غزّة، والداخل الفلسطيني بما يتميّز به من انقسامات وخلافات يحدّ من قدرة غزّة على التحدّي.
والولايات المتحدة منشغلة بالكثير من الهموم والمشاكل، وهي تواجه تحديات ضخمة على الساحة الدولية. أميركا تواجه قوة الصين الاقتصادية التي تتعاظم مع الأيام، والتي من المتوقّع أن تصبح القوة الاقتصادية الأولى في العالم مُنحيّة القوة الأميركية إلى الدرجة الثانية. وهي أيضاً منشغلة بتعاظم القوة التقنية والعسكرية للصين والتي تطمح أن تكون قطباً محورياً على الساحة الدولية. ولهذا تركّز أميركا اهتمامها على بحر الصين الجنوبي الذي يزدحم بالقوى النووية المُتنافِسة في المنطقة. وأميركا تحسب حساب روسيا التي تحدّتها في جورجيا ونجحت، وفي القرم وأوكرانيا. وهي تتحدّاها الآن في سوريا وشرق البحر الأبيض المتوسّط، بينما تبدو أميركا شبه مشلولة غير قادرة على أخذ زِمام المُبادرة. مكانة الولايات المتحدة كقطبٍ واحد أحد في العالم مُهدّدة بصورة جديّة، وهيمنتها على الساحة الدولية تعاني الآن من الاختراقات، ولا يتوفّر لديها برنامج مُضادّ للمحافظة على أطماعها في العالم. فضلاً عن أن أميركا تُقدّر أن استراتيجيتها في عولمة العالم على الطريقة الأميركية قد أصيبت بضربات قوية يصعب معها الاستمرار في الهيمنة الثقافية والفكرية. المعنى أن القضية الفلسطينية لم تعد على سُلّم اهتمامات الولايات المتحدة المركزية. ربما تكون القضية الفلسطينية على سُلّم الاهتمامات الثانوية، لكن الرئيس الأميركي يُفكّر عادة في ما يشغل باله وليس في من أهمل نفسه.
د. عبد الستار قاسم، أكاديمي ومفكر فلسطيني