بداية، لا بد لي أن أتقدم ببالغ الشكر والامتنان لصديقي العزيز وأخي القائد الدكتور نبيل شعث عضو اللجنة المركزية لحركة فتح، لإتاحته الفرصة الثمينة لأتعمق في كتابه الأول "حياتي من النكبة الى الثورة" ، وإهداءه لي كتابه الأكثر من رائع.
في هذا المقال سأتحدث عن أكثر ما استرعى انتباهي في فصول المذكرات، وما وجدت فيه ذاتي، ومشاعري، ووجداني.
مذكراته قصة كاملة، تأخذك للماضي، وتمزجك بالحاضر، وتسافر معها للمستقبل، ولقد عشت كل سطر من سطورها، وكل حدث من أحداثها، وكل يوم من أيامها، و اجتهدت على قدر الإمكان أن أنقل مشاعري هنا.
عرفت فيه إنسانا يحمل رسالة سامية ونبيلة، متمسكا بأحلامه، ويمتليء بوصفات مجربة أعانته في إجتياز صعوبات الحياة، يؤمن بأن الشعب هو الملهم والقائد وصانع التاريخ، وأن دور القائد الأساس هو تعليم وتدريب وتطوير من يقودهم وتحمل مسؤوليتهم، وأن العمل الوطني يجب أن يستند الى التطوع، وكما أن المناضل السياسي يجب أن يكون له مهنة أو وظيفة لتكون مصدر قوة له، وأن يوظف ما يتعلمه لصالح وطنه وشعبه.
يفسر الأخطاء بأنها أمر مقبول الحدوث بشرط عدم تكرارها ، وإفراغ اليأس من الحياة، وزرع حدائقها بالأمل، مهما اشتدت حلكة الظلام وقسوة الظالمين، ويبوح بسر النجاح الكامن في المواجهة بالشجاعة والحكمة والصبر والصمود والجَلَّد، والاستمرار والنفس الطويل، ومقارعة الحجة بالحجة وبالمعلومات الصحيحة، وأن اكتساب المعرفة يبدأ في الصغر ولا ينتهي أبدأ، وكما أن التسلح بالحقائق خير معين حتى لا نقع في فخ التبرير "اللاحق" الذي لا يجدي، وكما أن تشخيص المشكلة وتجزئتها والبدء في تفكيكها أفضل السبل لإيجاد الحلول المناسبة لها، وفي حال الهزيمة يجب عدم التعبير عنها بمرارة، وعدم الالتفات للوراء، بل مواصلة العمل لتخطي آثارها والبدء من جديد.
في المذكرات تجد مأساة الغربة واوجاعها، ويقدم تجربته الانسانية بأنه مهما تغربنا عن الوطن، فيمكننا صناعة أي وسيلة للبقاء قريبا منه، ويلمس القاريء كم هو الجرح الغائر في أعماقه باحثا عن الوحدة متألما من التشرذم والانقسام والفرقة، ولربما في سؤاله يكمن سر الرؤية السياسية لديه فيقول "لماذا نبقى متشرذمين، متفرقين، في الوقت الذي حافظت الدول البعيدة عنا على وحدتها برغم اختلاف الثقافات فيها وربما اللغات والأجناس، فلماذا لا نستطيع الحفاظ على وحدتنا..؟!"، ويزيد بتدفق وسؤال منطقي، لماذا لا نقرأ ونستفيد من تجارب الشعوب التي تسلحت بالمعرفة والثقافة، وتحملت الكثير من أجل رفعة أوطانها ونيل الحرية.
لمست في حياته الصدق والشفافية والصراحة المتناهية، ومعالجة الأحداث والمواقف دون مبالغة ، ومتسلحا بالشجاعة في الدفاع عن رأيه "الذي يراه صحيحا" ومتيقنا أن الثمن ربما يكون مزيدا من المشاكل والصعاب.
شخصية د.نبيل شعث عميقة وفي أسلوبه الجدية والسلاسة والبساطة والقدرة على الإقناع، تتعرف على دبلوماسيته في الحوار وقناعاته بأن الإنسان ينسى ذكرياته المؤلمة عبر الأيام، ولا يبقى منها إلا الأيام الحلوة، والأصدقاء الذين تركوا انطباعات ايجابية معنا، وأنه مهما كانت ظروف حياتنا معقدة ومتداخلة، فيجب كسب الأصدقاء، ولا سيما في بيئة العمل التي تحتاج الحرص وتحييد بعض الخصوم، ومواجهة الصعاب وخاصة في الغربة، وتجده رائعا حكيما بقوله " عليك أن تستمر في خدمة الناس من دون أن تتوقع منهم جزاء أو شكورا"، ومسيرة حياته تدلل على تفانيه وانتمائه في العمل، فهو لم يرفض طلبا لعمل يستطيع أداءه، يرفض التمييز الأعمى والظلم والطغيان، و العنصرية على أي أساس كان، سواء عرقي أو ديني أو طائفي أو لون، وينقل لنا تجربته في الحياة بقوله "أن المستفيدون من الفساد يقاتلون بضراوة ضد التغيير والتطوير".
أحلامه لا تتوقف، وتمسكه بأصدقاءه لا يتوقف، ونجدهم مسؤولي الغد، معززا علاقته بهم ومستفيدا منها في منعطفات القضية الفلسطينية، هذه القضية التي يختصرها بقوله "كم هو صعب هذا الحلم الفلسطيني! وكم يستطيع هذا الشعب تحمل الآلام من أجل تحقيق حلمه.؟!"
يترك بين أيدينا وصفات ناجحة ومدهشة للوصول للنجاح وتحدي الفشل وتجاوز العثرات، فتجده المتحدث البليغ باللغة الإنجليزية، فاللغة من وجهة نظره، ليست مفردات فحسب، بل مهارات وأساليب، وانفتاح على العالم وثقافاته وتاريخه، وعلى الإنسان استخدام كافة قدراته وإمكانياته وتوظيفها من أجل انطلاق عمل ناجح ومثمر ومؤثر، وأنه بالعلم يمكننا إنجاز الكثير، ويجب تعلم كيف نفكر ونحلل ونقرر ونحصل على المعلومات التي نريدها، ويُجْمِل التجربة بالقول " لا تعطني سمكه ولكن علمني كيف أصطاد".
وفي مذكراته تجده برغم كل انشغالاته وترحاله ومهامه، قريبا من أسرته، يتحدث عنها بتدفق ودفء، فالنشأة والعائلة جزء مهم من مسيرته الإنسانية والمهنية، ويدخلنا إلى داخل جدران بيته، لنتعرف على أسلوب الحوار الهاديء والبنَّاء بين أفراد أسرته، ونبحر في تجربته الثرية عبر تاريخه في صباه وشبابه وممارسة دور الأب، ويقول أن نظرة الأهل أوسع من نظرة الأبناء وأن التصادم ناشئ من تصادم الأجيال واختلاف الثقافات ومعايير الحياة، ولكن هذا يجب ألا يؤثر بالمطلق على الاحترام والود والبر والإحسان، ويؤمن بأن الزوجة كما الأم هي القوة الدافعة والحافز الأكيد للنجاح وتحمل الصعاب والهموم، ويقول أن العمل الشاق وخاصة الحركي والتنظيمي والأكاديمي، يضطرنا للبعد "إجباريا" عن الأسرة، ويؤدي هذا لحدوث إشكاليات، ويجب على الزوج تعويض ذلك بتخصيص يوم للأسرة لا يشاركها فيه أحد، وهذا مدعاة لجلب السعادة والتعويض قدر المستطاع.
وأخيرا، فإنني أقر مخلصا، أن مطالعتي لمذكرات صديقي العزيز د.نبيل شعث شكلت حدثا هاما في حياتي، وسأعود لقراءتها مرة تلو المرة لأكتشف المزيد والمزيد من إنسانية هذا الإنسان ونجاح السياسي وتطوره وتنقله من مهمة لأخرى ومن مقام الى آخر، ليصبح نموذجا نفتخر به، صانعا أساسيا لسياسة وطننا فلسطين، رافضا ومقاوما الاستعمار والاستيطان، ومجتهدا لتستمر الحياة، لأن على هذه الأرض ما يستحقّ الحياةْ: على هذه الأرض سيدةُ الأرض، أم البدايات، أم النهايات، كانت تسمى فلسطين، صارتْ تسمى فلسطين .
د.مازن صافي كاتب ومحلل سياسي
عضو اقليم وسط خانيونس- المفوض الاعلامي السابق