بعد مرور أعوام على مجازر اليهود في فلسطين وتهجير أهلها قام أحد مسئولين الهيئات الأممية والإنسانية من المؤسسات الدولية بزيارة قطاع غزة وأن غزة جزء من الوطن الفلسطيني فإن أهل مخيماتها لن يفكروا بالعودة إلى " تل الربيع " ودير ياسين وحيفا ويافا وعكا وغيرها من المدن الفلسطينية التي احتلها اليهود ولكن انظر ماذا حدث في تلك المدرسية التي زارها المسئول الأممي والذي تفاجا به هو ومن معه في ذلك الوفد ، حين طلب من بعض الأطفال بأن يحدثوه عن طفولتهم في تلك المدرسة وفي ذلك المخيم الذي يعيشون فيه . فكان خلدون أحد طلاب تلك المدرسة فوقف وقال بصوتِ عال ، أنا طفل فلسطين ، أعيش وحيداً في وطني المسلوب ، قتل الاحتلال أهلي أبي وأمي ، قتل طفولتي ، أنا طفل صغير كباقي أطفال العالم ، أحمل في عيني البراءة في همساتي ولمساتي معنى الطفولة ، أصحو في الفجرية على صوت زقزقة العصافير أركد في بستان جدي وأداعب الفراشات وهي تطير بين الأزهار .
صمت خلدون لبرهة من الزمن وقال : أما أنتم أطفال العالم فلا اختلاف بيننا تحملون أيضاً معنى البراءة ومعنى الطفولة .
إذاً فما الفرق بيننا وبينكم ؟ كلانا أطفال بريئين ، إذاً لما هذا هو حالنا ؟ نعم إنني أعرف الجواب ، على الرغم من أنني طفل صغير ، لقد قتل الاحتلال طفولتي وسلب مني كل أحلامي .
وكان أطفال المسرح في تلك المدرسة أعدوا تلك الأغنية وصعدوا إلى خشبة مسرحهم وأنشدوها وهي : "طيري طيري يا عصفورة أنا طفلة حلوة وصغيورة طيري طيري يا عصفورة وغني وغني في المعمورة أنا أجمل عصفورة غني وألعب ويا البنت الأمورة ،والبنت الحلوة الشطورة بتقطف وردة وترسم صورة ،طيري طيري يا عصفورة طيري طيري يا عصفورة ،وعجناحك أجمل حدوثه فيها كلمة فيها بسمة ،فيها غنوه فيها رسمه رسمتها البنت الأمورة ،صورة لماما وصورة لبابا طيري طيري يا عصفورة ".
وبعد انتهاء الأغنية انسحب الأطفال من على خشبة المسرح ودخل خلدون وأحمد وهدى ومجموعة من الأطفال وقالوا لم تنته الأغنية وبدوا بالنشيد : طيري يا حمامة واحكي الحكاية ،أنا طفل فلسطين ،بيدي غصن الزيتون عش اليمامة وصوت البارود قتل الحمامة ،وقع غصن الزيتون وقتل السلام وأيامه ،وإحنا ما عدنا نلعب خوف وحرب ودمار ، والخوف ساكن في عيوني وعصحابي واللي يحبوني ،وين الضمير يا عرب ليش قلوبكم بالخوف صارت مليانة ، بين الحطام الأطفال ماتت واللعبة ضاعت أكثر من هيك ما ظل اهانة ، ثم يتوقف الجميع عن الغناء والنشيد وتتقدم من بينهم طفلة حزينة في خطواتها صامتة ويبدو على وجهها حزن شديد تعرف معناه قبل أن تبدأ بالكلام ، أنظر ما تقول: أنا !!!
أنا طفلة صغيرة .... ولدتني أمي دون أن أراها.... رباني جدي .... علمني كيف أصبر على ما أصابني .... وحين صار عمري 7 سنوات رأيت عيون جدتي المستديرة تحدق بي ..... تتذكر ابنتها التي فقدتها وهي أمي ... لها في عيوني ذكريات أليمة .... فحين تراني تتذكر فناء البيت العتيق ... تتذكر كيف كانت أمي تعد الأيام لتراني ..... وكيف قتلها الاحتلال فصارت ذكرى حزينة ...... تحدق بي جدتي وهي خائفة مما قد أراه لاحقاً .... كنت ألعب في البستان وألاحق الفراشات .... كنت أقطف أجمل الزهرات ...... رغم أنها كانت صغيرة .... وكروم العنب حملي ..... كنت أنام تحت أشجار الزيتون ..... عند ساعات الظهيرة أملأ الجدع بنقش .... ثارة اسمي وثارة أحلامي .... عندما كنت صغيرة لا أدري كيف كانت الأيام والسنين تمضي كأحلام صغيرة تختبئ بين كراسي وصورة ..... عندما كنت صغيرة ..... كنت أجمع عناقيد من الحنبل وأطهوها مع جدي في إناء من الصفيح..... كنت ألهو بعروس من الورق صنعتها لي جدتي .... ثارة تصنع لي طيارة ورقية ... وثارة تصنع لي طاقية .... وكنت لا أدري ... ما الذي تريده جدتي ... ولكني أدركت بعض الشئ .... حين شعرت بأن أفتقد لحنان أمي ... ولحضن أبي الدافئ .... كنت ألهو كيفما أهوى . واليوم أين طفولتي ؟! أين عروستي ... عمري 7 سنوات صغيرة .... فأنا أول من قُتل على أيدي أعداء الطفولة .... حرموني أن أري أبي وهو أسيراً..... حرموني أن أرى أمي وهي قد ماتت ... وحرموني أن أري نفسي في مرآة أحلامي البريئة ... فاتركوني كي أعيش طفولتي ولو للحظات قصيرة ..... اتركوني ....اتركوني وبعدها تسقط الطفلة على الأرض مغمى عليها من شدة الحزن والألم والموسيقى الحزينة هي اللحن الحزين الذي يستمع إليه الحضور .
وبعد ذلك يخرج الأطفال من علي خشبة المسرح المدرسي ويدخل مجموعة أخرى من الأطفال ومعهم طفلان هما " سليم وحسن " سليم يجلس على يمين المسرح حزين وعلى اليسار ثلاثة أطفال ثم يدخل " حسن" على المسرح ويدور الحديث والحضور يستمعون بإصغاء شديد حسن :- مرحباً صديقي سليم ما بك .... أراك حزيناً أخبرني يا صديقي .
سليم : - آآآه آآآه ويتنهد طويلاً ويقول ماذا أخبرك يا صديقي
حسن :- ما بك أخبرني ... أخبرني يا صديقي .... هل أغضبتك في شئ .
سليم :- لا ..... لا صديقي
حسن :- إذن ما الذي أصابك من حزن وألم..... وما هذا الحزن الذي أراه في عيونك
سليم :- انه الاحتلال ...الذي سلب مني كل شئ .... سلب أرضي ووطني ... قتل أمي .... أسروا أبي ... سرقوا لعبتي .... سلبوا كل شيء مني .... حرقوا أشجاري وهدموا بيتي أمام عيني ... حاصروني وجوعوني وسرقوا البسمة من على شفاهي .... امطروا الدمع في عيوني ... انه يقتلني .... والعالم في غفلة نائمون .... ينظرون دون أن يتحرك له شيء من السكون .... الاحتلال يا صديقي ... إنهم وحوش فارة من الغابات ..... في كل يوم يستشهد الكثير الكثير من أطفال فلسطين .... ولا أحد يسمع نداءاتنا.... فأين حقوق الطفل .... أين حقوق الإنسان. صحيح أن عزيمتنا قوية لكن .... لكن يكفينا ألماً يكفينا .... أنظر يا حسن ..... انظر يا صديقي ... هؤلاء ثلاثة أطفال مثلنا تركوا مدارسهم ... حرموا طفولتهم ..... تاهوا بين رمال الصحاري وبين أشجار الغابات وعناء الدنيا ... سلهم من تكونوا ؟...وما هي أحوالهم وستسمع منهم ما لم تأتي به الصحف وما لا تعرفه شاشات التلفاز ، يدور هذا
، يدور هذا الحوار والموسيقى الحزينة تخيم على الأجواء . ويبدأ الأطفال الثلاثة كل واحد منهم يسرد حكايته فكان أولهم ابن الشهيد . كلما فتحت كتابي تذكرت أبي حين كان يعلمني كيف أقرأ اشتقت إليه كثيراً واشتقت لأصحابي ولقائي مع الأستاذ اشتقت لفناء مدرستي وطابور الصباح ضاعت أحلامي وحطمت آمالي وعيوني عم تدمع وصرت ليلي ونهاري في الشوارع بين الزقاق أبحث عن لقمة عيش ألاقيها وإن لاقيت اللقمة ما بشبع كتب على الزمن وآلامه تتبدل الأحوال أنا كنت ابن العز مضرب الأمثال ليش ما في عدل ...... ليش....... ليش بدي منكم كلمة حق واضحة مثل الشمس تلمع مثل البرق مش ورق مثل الفضة هش بدي شهادة صدق اسمعها تنقال ابن الشهيد يا ناس ليش ما تحضنوه ليش يا مجتمع ما تكرم لروح الشهيد أبوه اللي مشى درب البطولة والنضال حمل هموم الوطن وما نزل هالأحمال واستشهد عشان الوطن والعروبة مش حرام أعيش في جراح طول العمر حكم علي الزمن أنا ابن شهيد إني أصير بعد هالحال عتال هو الميزان انكسر أو البخت ميال.
ثم يأتي دور ابن الأسير في الكلام فيقول: انا طفل عمري 7 سنوات أنا الثالث بعد أختين على الرغم من صغر سني اللي يشوفني يقول عني في العشرين أبوي أسير من يوم ما كنت جنين في رحم أمي أختي الكبيرة ممتازة في المدرسة .... مصروفها ما في والصغيرة مريولها ما عاد ينفع تروح فيه المدرسة وأمي عشان توفر المصروف تشوف الويل في عز الليل حاجة ما فيها كسوف تشتغل خدامة في البيوت عشان اللقمة اللي تعيشنا عشان القوت و إن ما عملت هيك كلنا من الجوع راح نموت وتركت أصحابي ومدرستي وقلمي وكراستي وصرت أبحث بين الزقاق عن شغله ألاقيها وهالبحث طول وما لاقيت وحزني على أمي وإخواني زاد مش قادر أتحمل وما كانت شغله قدامي إلا أمد ايدي وأتسول في الشوارع والزقاق والحارات عبواب الجوامع ومواقف السيارات ليش يا عالم ابن الأسير ابن الشريف ينزل وين الضمير وين؟؟؟ بدي الجواب منكم ؟؟؟ بدي الحل
وبعدها يأتي دور الطفل الثالث بالكلام وهو ابن العامل أنا ... انا حكايتي طويلة ومليانة آلام أنا ابن عامل بسيط ونشيط ومش كسلان يطلع قبل صلاة الفجر ويرجع بعد غياب الشمس طالع عالأمل يمكن يلاقي أي عمل وما يقولوا عليه عاطل على هالحال صارلو سنتين على أمل يلاقي شغل نعيش منو حتى أنا مش لاقي مصروف مدرسة ولا حتى ثمن دفتر وحكم القدر يمرض أبوي اللي برقبتو عيلة كبيرة وارتمي أبوي المسكين بفراش المرض وصرت أنا حامل على كتافي حمل كبير وشلت الشيلة وما في في اليدين حيلة ولساتني طفل صغير رحت أدور على شغلانة بلكي هالحال يتبدل لكن ايش بدي أعمل وأنا طفل ضاعت على المدرسة وحلمي بالمستقبل وصرت أمسح السيارات في الشارع وبصراحة هالشغلة لطفل مثلي صعبة ما تنطاق من الرايح ومن اللي جاي اتبهذل لكن بقول يللا الرزقة من الله ومصير هالحال يتبدل ويتغير وهكذا ينهي الأطفال الثلاثة قصتهم الواقعية على خشبة المسرح ويدخل غيرهم من أطفال فلسطين ليقدموا أنشودتهم التالية بعنوان " أنا طفل البساتين" أنا طفل البساتين الخضرة فلسطين أمي وبيه أنا طفل فلسطين صوت الحزن ينادي عليه أحزان تناديني آلام توديني لبلدي المأسورة قدام عينيه حرموني من ماما حرموني من بابا حرموني من بلادي فلسطين الأبية والدمعة الساكنة في عيوني عصحابي اللي حبوني وفرقوني بأتمنى شمس الحرية تعود عبلادي حرة عربية ثم يصرخ الأطفال جميعاً على خشبة المسرح قائلين : " يا ضمير العالم اسمعنا وخلينا نعيش بحياة ومعني" ثم يعود سليم وحسن للحوار من جديد
ثم يعود سليم وحسن للحوار من جديد سليم :- طول عمري وأنا بحلم أعيش في دنيا كلها حب وسعادة ما فيها ظلم وعدوان وما فيها قاتل ولا مقتول ، دنيا كلها عدل ومساواة وضمير وإنسانية ، إحنا عايشين في غابة ، الحياة فيها للوحوش وللأقوى.
حسن:- ماذا أصابك يا صديقي ؟ صديقي سليم أصبر واجعل أملك في وجه الله كبير وغداً سينتصر الحق وستشرق شمس الحرية وفجر الاستقلال سيولد من جديد وحيعود الحق لصحابو ، ونبني في الأفق دفقات من نور ، ونور الحرية والاستقلال راح يولد من جديد . صدقني يا صديقي إن الحق راح يعود لصحابو ، صدقني فقد رأيت ليلة أمس في الحلم...
سليم :- ماذا رأيت ؟ أخبرني
حسن :- رأيت حلم كثير كثير حلو
سليم :- شو يعني كثير كثير حلو؟ أخبرني فقد شوقتني كثيراً
حسن :- شفت في الحلم إن مسيرة كبيرة فيها أطفال من كل العالم جاين على فلسطين لنصرة الحق وصوت هتافهم يعلو ويعلو " بالروح بالدم نفديك يا فلسطين" وحينها صحيت من نومي وصوت الهتاف لسه بسمعو
سليم :- مليت مليت من يوم ما تولدت وأنا بعيش بخوف في هذه الدنيا ، وأنا لا أعرف سوى الموت والرعب ، متى راح أعرف معني الحرية ومعنى الوطن ، ليش ما نكون مثل باقي أطفال العالم الذين يعيشون طفولتهم بأمان دون خوف وحزن.
لقد قررت أن أهاجر وما راح أرجع لكي أعيش بسعادة .... ثم يصمت برهة ويقول حائراً :- ولكن .... كيف؟؟....
حسن : - يا صديقي لا تيأس فهذا قدرنا والله لو طفت كل البلاد فإنك لن تشعر بالأمان والدفء والحنان إلا في أحضان أمنا فلسطين.
هيا ، هيا يا صديقي ودعنا من هذا اليأس وخلينا نستغل أوقاتنا ونفكر كيف نبني الوطن ونرجعوا خلينا نفكر كيف إخواتنا الصغار نخليهم ما يعيشوا ماساتنا خلينا نفكر كيف نرجع وطنا المحتل.
سليم :- الوطن ..... هه هذا حلم.
حسن :- لا هذا ليس حلم ، هذا هو حق ، صدقني يا سليم بوحدتنا وثقتنا بالله سنحقق المستحيل فهذا وعد من الله ....
سليم :- يصمت قليلاً ويسير بعض الخطوات صديقي حسن أريد أن نبدأ في العمل الآن
حسن :- كلام جميل ومعقول هيا بنا... ووقتها يدخل جميع الأطفال لخشبة المسرح ويكون المظهر وكأنه خلية نحل الكل يعمل وكل واحد فيهم يؤدي دور فمنهم من يلبس طبيب ومنهم من يلبس لباس عامل ومنهم من يلبس عسكري ومنهم من هو بلباس الطالب وهكذا يختم الاستعراض.
إلي هنا ينتهي العرض
بعد انتهاء الجولات الاستعراضية التي قدمها الأطفال على خشبة المسرح أمام الوفد الأجنبي وبحضور المسئول الأممي ، وقف أحد الزوار الحضور وقال " لم نكن نعرف بأن أطفال فلسطين هم رائعون إلى هذا الحد ولم نكن نعرف عن بشاعة الاحتلال إلا القليل وظننا بأنكم أطفال فلسطين بعد مضي أعوام أنكم سوف تنسون ما حدث لآبائكم وأجدادكم ولكن ما شاهدناه يدلل لنا أنكم أصحاب حق وأن المحتل مجرم وغاصب وقاتل لطفولتكم ومخطئ من ظن أن الأوطان تنسى". ثم وقف طفل صغير وقال : يا صاحب الضمير هل تبكي لما أبكاني أرأيت ما قد حصل في العالم الحيران، الألم واليأس يحطم الآمال ويهز الكيان ، عند بلوغ النهاية أيقنت أنها البداية
عند بلوغ النهاية أيقنت أنها البداية قالوا أننا لاجئون فقلنا لا وألف لا نحن ، نحن يا وطني عائدون نحن أطفال فلسطين حتماً عائدون لنعانق تلك الغصون أغصان لن تسقط ، رويت بماء العيون ماء استخلص من دمع انهمر كالمطر من بين تلك الجفون .
بقلم/ هاني مصبح