لم يكن أحدا يدري أو يخطر في ذهنه ما يشهده عالمنا العربي هذه الأيام عندما أدلت كونداليزا راييس وزير الخارجية الأمريكية آنذاك بتصريحات إلى صحيفة واشنطن بوست عام 2005 ، قالت فيها : إن الولايات المتحدة الأمريكية ستعمل على تعزيز الديمقراطية في منطقة الشرق الأوسط عبر إحداث الفوضى الخلاقة ، ما لبث أن استخدم هذا التعبير العديد من الكتاب والباحثين العرب في كتاباتهم ومداخلاتهم في مناسبات مختلفة ، وما لبث أن شهدت بعض الدول العربية بعض التململ الشعبي في مصر حيث بدا تظهر على السطح تشكيلات وتنظيمات من قبل بعض الشباب الرافضون للحالة السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي وصلت إليها البلاد ، من تفشي ظاهرة الفقر والبطالة ، وغيرها من المشاكل والأمراض الاجتماعية ، كالرشوة والفساد والاستبداد ، بل تعداها الأمر إلى ظهور دعوات أو نوايا إلى توريث الحكم للعودة إلى الخلف ، ففي مصر ظهرت حركة كفاية ، وحركة السادس من ابريل ، وغيرها من حركات في العالم العربي مناهضة لأنظمة الحكم ومطالبة بالتغيير ، وفي ظل نشاط هذه الحركات المتزايدة بدأت حركة الإخوان المسلمين في زيادة أنشطتها بين أوساط المجتمع . حاولت الأنظمة السيطرة واحتواء هذه الحركات من خلال تنظيم الانتخابات البرلمانية ، تارة وتغيير الحكومات تارة أخرى ، إلا أن مثل هذه الإجراءات كانت غير كافية لإحداث نقلات نوعية لها انعكاساتها الايجابية على حياة الغالبية العظمى من السكان ، وفي ظل عمليات الشد والجذب قام احد الشباب في تونس بإحراق نفسه احتجاجا على سوء الأوضاع المعيشية التي يواجهها الشباب في تونس ، ما لبثت أن اندلعت المظاهرات والاحتجاجات الشعبية في مختلف المدن التونسية لدرجة أن فقدت الحكومة المركزية السيطرة ، والنتيجة في النهاية هي رحيل الرئيس التونسي زين العابدين عن تونس تاركا الحكم للشعب التونسي ليقرر، في الخامس والعشرين من يناير أثار ما يعرف بالثورة الشعبية في تونس قائمة بلغت التحركات الشعبية في مصر ذروتها وتجسدت بشكل كبير في اعتصامات حاشدة في ميدان التحرير بالقاهرة ، الأمر الذي دفع بالرئيس حسني مبارك إلى التنحي عن الحكم تاركا الحكم لمجلس عسكري أدار البلاد حتى تسليمه للحكم المدني بعد انتخابات رئاسية . ثم ما لبثت أن اندلعت ثورات شعبية في كل من سوريا و اليمن وليبيا كان من نتائجها التخلص من أنظمة الحكم في كل من ليبيا واليمن وتحول الصراع في هذه البلاد من مجرد تحركات شعبية سلمية إلى صراعات دموية حتى الآن ، وراح ضحيتها عشرات الآلاف من القتلى والجرحى ومئات الآلاف من المشردين اللاجئين في فيافي الأرض ، وخسائر مادية فادحة لحقت بالبنية التحتية لهذه البلاد واستنزاف مقدراتها وتوقف حركة التنمية الاقتصادية والمجتمعية فيها .
لقد انطلقت تسمية ووصف هذه ثورات بالربيع العربي من الولايات المتحدة الأمريكية من قبل الساسة الأمريكيون والكتاب ، أسوة ببعض الثورات التي حدثت في أوروبا في القرنين التاسع عشر والعشرين ، وفي الحقيقة نجد أن هذه الثورات ما هي إلا تطبيقا عمليا لتصريحات كونداليزا رايس السابقة بضرورة إحداث التغيير في العالم العربي عن طريق نشر الفوضى الخلاقة .
فرح وهلل العديد من أبناء العروبة مرحبا باندلاع الثورات العربية مبشرا ببزوغ فجر جديد يخيم على شعوبنا العربية ، تنتشر فيه الديمقراطية والخير والنماء والانعتاق من عهود الفساد والاستبداد نتيجة استمراء الحكم وسطوة النفوذ ، وبالتالي استحواذ الثروات والامتيازات في أيدي فليلة، وحرمان الغالبية العظمى من أبناء الشعوب منها ، وفي وسط هذا السيل الجارف من الدماء والخراب الحاصل نتيجة هذه الثورات دعا البعض إلى ضرورة الاستمرار حتى تحقيق الأهداف مشبها ما يجري في بلادنا بالثورة الفرنسية التي اندلعت في أواخر القرن الثامن عشر ، والتي كان من نتائجها تأسيس الجمهورية الفرنسية ، والتأسيس للحياة الديمقراطية التي صاحبها فيما بعد عدالة في التوزيع وتحقيق التنمية وانعكاسها الايجابية على حياة المواطنين الفرنسيين .
والسؤال الآن إلى أين وصلت ما يعرف بثورات الربيع العربي ، وهل حقا هي تشبه الثورة الفرنسية عند مقارنتهما ؟ .
اعتقد أولا أننا نظلم الثورة الفرنسية إذا ما شبهنا ثورات الربيع العربي بها ، والسبب في اعتقادي يعود إلى أمرين اثنين هما :
الأول : أن الثورة الفرنسية اندلعت لتغيير جذري في بنية المجتمع الذي استمرت سائدة لقرون طويلة ، ومن ابرز سمات هذه البنية هي الطبقية السائدة ، طبقة النبلاء ، وطبقة رجال الدين ، وطبقة الشعب الكادح أو كما وصفت عند بعض المؤرخين طبقة العبيد ، حيث كانت طبقة النبلاء هي الطبقة صاحبة الامتيازات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وفي بدها كل شيء تقريبا ، أما طبقة رجال الدين جاءت مساندة لطبقة النبلاء لاستمرار هيمنتها والاحتفاظ بمزاياها ، من خلال جعل رجال الدين من أنفسهم وسطاء عند الله سبحانه وتعالى
بينهم وبين العامة وفي يدهم صكوك الغفران ، إذن الثورة الفرنسية كانت عبارة عن انقلاب كلي تناول جميع أركان المجتمع ، وبدأت تحقق نجاحاتها في مراحل الثورة الأولى ولم تمض عشر سنوات حتى كانت الثورة الفرنسية قد حققت جميع أهدافها، وأصبحت فرنسا خلال فترة قصير إمبراطورية كبيرة لها العديد من المستعمرات الخارجية في إفريقيا واسيا وأمريكا ، وعلى الرغم من سقوط انتهاء الإمبراطورية الفرنسية إلا أن فرنسا ما زالت دولة قوية ذات إمكانيات اقتصادية كبيرة ، وهي دوله مثالا للتنمية والحرية والعدالة والمساواة بين أفراد الشعب الفرنسي .
الثاني : هو فرنسية الثورة الفرنسية ، إذ لم يسجل التاريخ تدخل منظم للقوى الخارجية في أحداث الثورة الفرنسية ، فقد انحصرت الثورة بين فئة الشباب الفرنسي الصاعدة والطامحة إلى التغيير الحقيقي وأركان الحكم ورجال الدين ، على عكس الثورات العربية التي تشهد تدخلات إقليمية ودولية في أحداث الثورات ، ما جعلها تتحول إلى حروب تقترب من الحروب الدولية في نفس البقعة من الأرض ولعل ما يجري في اليمن وسوريا وليبيا خير مثال على ذلك ، كما أن الثورة قد تحولت إلى صراع عقائدي بين حركة الإخوان المسلمين الدولية والتي تعتبر حركات الإخوان المسلمين في البلاد العربية فروعا لها ، وبين أنظمة الحكم ، مستغلين طبيعة الشعوب العربية الفطرية من الناحية الدينية ، وما لبث أن تحول هذا الصراع إلى صراعات طائفية كالصراع الدائر بين الشيعة والسنة ، وهكذا نرى أن الصراعات تتشعب وتزداد ما أفرغ الثورات العربية من محتواها وأبعادها عن أهدافها .
وطبقا لهذه الصورة وهذا الواقع التي تشهدها في الساحة العربية الحالية ، نسأل هل حققت هذه الثورات في بلادنا ما حققته الثورة الفرنسية علما بان ثورات الربيع في العالم العربي لم تبدأ في عام 2011 ، بل تعود جذورها الأولى من بداية عام 2005 أو نهاية عام 2004 عندما بدأت تظهر حركات مثل حركة كفاية المصرية وحركة السادس من ابريل ، وحتى في فلسطين عندما حدث الانقسام الفلسطيني فيما بعد عام 2007 الذي نعتبره جزء من ثورات الربيع وما زال قائما حتي الآن .
بالطبع لا ، ولدينا نموذج دول مالت إلى الهدوء النسبي السريع في أعقاب الثورات التي لم تستمر طويلا ، لدينا النموذج التونسي ، إذ لم يتمكن نظام الحكم التونسي وهو ذات طابع إسلامي جاء بانتخابات حرة ، من تحقيق ما يصبو إليه الشعب التونسي ، حتى بعد تراجع حزب النهضة الإسلامية الذي تولى زمام الأمور معلنا فصل الدين عن الدولة إلا أن الشعب التونسي ما زال يعاني من الفقر ، والبطالة ، والفوضى ، وانتشار الجريمة ولم ينعم بالاستقرار والأمن ، ولعل وسائل الإعلام تنقل لنا يوميا كميات من الأخبار الغير مبشرة في هذا البلد العربي الذي يعتبر مفجر ثورات الربيع العربي . أما النموذج المصري ، فلم يلبث الشعب المصري إن قام بإقصاء حكم الإخوان المسلمين عبر ثورة شعبية عارمة شارك فيها ملايين المصريين يوم 30 يونيو عام 2013 أي بعد عام واحد فقط على تولى الرئيس محمد مرسي الحكم بعد انتخابات حرة ، ما دفع الجيش المصري إلى تولي زمام الأمور حتى تنظيم انتخابات جديدة جاءت بالرئيس عبد الفتاح السيسي رئيسا ، وخلال الثورة سقط مئات الشهداء وآلاف الجرحى بين صفوف الشعب المصري مدنيين وعسكريين ، وما زالت تندلع بين الفينة والأخرى مواجهات مسلحة بين الجماعات الإسلامية والجيش المصري ما تلقي بظلالها على مختلف نواحي الحياة في مصر .
أما في ليبيا واليمن وسوريا فالأوضاع مزرية حيث اختلط الحابل بالنابل والمراقب لا يستطيع معرفة من يحارب من بعد دخول آلاف المقاتلين من دول خارجية إلى هذه البلدان وتفجر الصراعات القبلية خاصة في اليمن وليبيا ،بل وصل الأمر إلى اشتعال الحروب المنظمة كما هو حاصل في كل من اليمن وسوريا .
هذا ينقلنا بعجالة إلى الواقع الحالي وآفاق المستقبل ، من خلال متابعة ما يجري ، فالواقع العربي في مناطق ثورات الربيع لا يبشر بخير فهو واقع مر ، لا يبدو في الأفق ما يشير إلى تغيير حقيقي ، وان حدث هذا التغيير فلن يحدث تغييرا يحقق الأهداف بل سينتج عنه نتائج لم تكن متوقعة عند الكثير في دداية اندلاع الثورات ، أبرزها التقسيم والشرذمة وإطالة أمد الحروب حتى تأتي على الأخضر واليابس في هذه المنطقة ، وتعود هذه المنطقة لتصبح مسرحا ومرتعا لعهد جديد من عهود العبودية والاستعمار ونهب الثروات والمقدرات ، ولكن هذه المرة تكون الأيدي العربية هي من ساهمت بشكل كبير في الوصول إلى هذه النتائج ، وهو ما يمكن وصف بالتدمير العربي الذاتي ، تدمير في قيمنا الحضارية والدينية والأخلاقية والفكرية ، وهنا لا بد من صحوة عربية جادة لإيقاف ما يجري وإحلال التغيير السلمي إلى الأفضل بدلا من التغيير الدموي إلى الأسوأ .
أكرم أبو عمرو
غزة – فلسطين