يمكن القول مجازا ان الفكر السائد في مجتمع معين هو فلسفة ذلك المجتمع. لأن الفلسفة اساسا هي فكر ومنهج للتعامل مع مختلف القضايا الانسانية. هنا لا بد من القول ان مهمة الفلسفة ليس الحفاظ على واقع يعاني من مشاكل التقدم والتطور والرقي في حياة الانسان.. بل تنوير الفكر السائد وانفتاحه على الحضارات والتفاعل معها. لذلك قال الأديب والفيلسوف الألماني يوهان غوته من القرن الثامن عشر بأن "الذي لا يعرف أن يتعلم دروس الثلاثة آلاف سنة الأخيرة يبقى في العتمة" ولا بد من التأكيد ان الأداة لنتعلم دروس الثلاثة آلاف سنة الأخيرة وما يليها هي الفلسفة!!
يمكن اعتبار الفيلسوف الإغريقي سقراط، بأنه أول من أنزل الفلسفة من السماء إلى الأرض ، وذلك بسبب تحويله الفلسفة من التفكير المجرّد بالكون وكل ما يتعلق به من ظواهر وتخيلات وخرافات، إلى عمليّة البحث في الذات الإنسانيّة، وإعطاء الأجوبة الواقعية للظواهر المختلفة، وهذا الأمر أدى إلى تغيير الكثير من المعالم الفلسفيّة، عن طريق تحويل النقاش إلى ماهية وطبيعة الإنسان وتكوينه والطبيعة وظواهرها بالاعتماد عل التفكير المنطقي وليس العجائبي.
اما أفلاطون، وهو أستاذ سقراط، فقد دعا من جهته إلى اعتماد العقل والمنطق، بصفتهما أهم أسس التفكير العقلاني الواعي والسليم للنهج وفق عددٍ من القواعد والقوانين.
بالتأكيد لا أجد اليوم فلسفة عربية ذات مناهج وجذور، أو ضمن نهج يعتمد المنطق وليس الأوهام والقصص الخرافية. يوجد فلاسفة عرب لكنهم يتعاملون مع تيارات فلسفية غير قائمة في أوطانهم ..وللأسف المجتمعات العربية هي خارج الفكر الفلسفي، حتى ما عرف تاريخيا بفلسفة عربية كان نقلا عن فلسفات إغريقية، عبر ترجمتها والتأثر بها وتطوير لجوانب عديدة منها، مثلا "جمهورية افلاطون – المدينة الفاضلة" كما تخيلها الفيلسوف المشهور " أفلاطون " هي مدينة تمنى أن يحكمها الفلاسفة .. لحكمتهم التي ستجعل كل شيء في هذه المدينة نموذجيا وراقيا، وبناءً عليه ستكون مدينة فاضلة توفر لسكانها وزائريها شروط حياة نموذجية، وقد تأثر بذلك الفيلسوف المسلم الفارابي (تركستاني الأصل) الذي اشتهر بإتقان العلوم الحكمية وكان له باع طويل في صناعة الطب وله عدد كبير من المؤلفات في مجالات واسعة من الموسيقى إلى العلوم إلى علم الاجتماع والمنطق والسياسة والتصنيف وشرح تعاليم أفلاطون وأرسطو واشتهر بكتابه "آراء أهل المدينة الفاضلة"متأثرا من جمهورية أفلاطون.
هذا هو المنهج الطبيعي لكل مجتمع في تعامله مع الفلسفة ولا أخطئ بالقول ان النشاط الفلسفي يخدم المجتمعات بمختلف عقائدها وتنوعها الاثني والديني. معضلة المجتمعات العربية هو رفض مغادرة الماضي والتمسك به لدرجة الخروج من التاريخ عامة، رغم ان الفكر ألماضوي لفظ كل طاقاته (ويمكن القول أنفاسه) عن إحداث أي تغيير أو إحداث انطلاقة حضارية معاصرة.
مثلا سأعود الى الفلسفة البراغماتية (Pragmatism) التي كتبت سابقا عنها حلقة خاصة في نصوصي عن "الفلسفة المبسطة"،من رؤيتي أهميتها في إحداث انطلاقة تطويرية.
تعتبر الفلسفة البراغماتية أمريكية بشكل أساسي، وهي فلسفة سادت المجتمع الأمريكي وأثرت على مجمل الحياة الأمريكية، كانت وراء تحول أمريكا إلى قوة عظمى علميا، اقتصاديا وعسكريا. ودراسة هذه الفلسفة ونشاط فلاسفتها يعتبر مدرسة لكل مجتمع يحث الخطى على التطور، طبعا لا انفي أهمية استيعاب مجمل ما ظهر من فلسفات عبر التاريخ وكيفية الاستفادة منها في تطوير مجتمعاتنا للحاق بالحضارة الإنسانية التي تتجاوزنا، رضينا ام أبينا.. بمراحل شاسعة من الجدير ان تثير قلقنا وتحفزنا لإحداث التغيير الثوري في واقعنا!!
البرغماتية (الفلسفة العملية بالعربية)هي مذهب فلسفي سياسي كذلك يعتبر ان "نجاح العمل هو المعيار الوحيد للحقيقة". البراغماتية تعتمد على الدمج بين النظرية والتطبيق. نشأ هذا التيار الفلسفي في الولايات المتحدة في اواخر القرن الثامن عشر، من أبرز فلاسفة البراغماتية الفيلسوف الأمريكي ويليام جيمس(1842 - 1910) وكان إلى جانب الفلسفة من رواد علم النفس الحديث ،علم النفس التربوي وعلم النفس الديني والتصوف، ، وله قول شهير يمكن اعتباره اطلالة على فلسفته البراغماتية:"إن الاكتشاف الأعظم الذي شهده جيلي والذي يقارن بالثورة الحديثة في الطب كثورة البنسلين هو معرفة البشر أن بمقدورهم تغيير حياتهم عبر تغيير مواقفهم الذهنية".
إذن المواقف الذهنية هي التي تحدد قدرة البشر على تغيير حياتهم. وهنا أزمة الفكر السائد في العالم العربي. من هنا أيضا مصدر رؤيتي وقناعتي ان أهم ما يفتقده العالم العربي هو المقدرة الذهنية على إقرار ضرورة التغيير الثوري في حياتهم .. أي ان الأزمة العربية بدأت من الفكر قبل ان تتحول إلى حالة تطور مستعصية، تعثر التطوير والانتكاس الاجتماعي، وتسيب إرهابي مذهل!!
من فلاسفة البراغماتية ( الفلسفة العملية) البارزين نقرأ أسماء عديدة منهم الفيلسوف وعالم نفس الأمريكي جون ديوي (1859 – 1952) الذي يعتبر من ابرز فلاسفة البراغماتية ومن أوائل المؤسسين لها، وهو من أطال عمر هذه الفلسفة واستطاع ان يستخدم بلياقة كلمتين قريبتين من المفاهيم التربوية للشعب الأمريكي هما "العلم والديمقراطية"!! وما أحوجنا لهذا الثنائي (العلم والديمقراطية) إذا قررنا انه حان الوقت لإحداث انطلاقة ...
ثم هناك الفلاسفة الجدد الذين استأنفوا تراثهم الفكري مثل الأمريكي ريتشارد رورتي (1931 - 2007) تتعلق فلسفتة بالفكر السياسي ونظرية المعرفة، انطلاقا من روافد فلسفة التحليل وهيلاري پوتنام (1926 - 2016) فيلسوف وعالم رياضيات أمريكي، ويُعد أحد أبرز الفلاسفة في الفلسفة الغربية المعاصرة منذ الستينيات من القرن العشرين. ونلسون غودمان (1906 - 1998) نلسون يعرف بجهوده لطرح موضوع "الاستقراء" (Induction) وقد حاول إسقاط إمكانية الوصول إلى قوانين علمية بطريقة حثية (inductive) (حثية تعني إعطاء أو دفع ولا أرى ان الترجمة العربية مناسبة - نبيل).
"الاستقراء" هي طريقة يجري بواسطتها استنتاج معين من ظواهر منفردة وعبرها يجري إقرار شامل للظاهرة.
مثلا كل طيور اللقلق التي رأيناها كان لونها أبيض، من هنا يمكن الاستنتاج (عبر الاستقراء) ان كل طيور اللقلق هي بيضاء. لكن لننتبه ان الاستقراء ليس قاعدة من ناحية علمية، لأننا يمكن ان نشاهد فيما بعد طيور لقلق لونها مختلف وليست بيضاء وبذلك تسقط عملية الاستقراء. ورغم ذلك لا يمكن نفي ان الاستقراء يلعب دورا هاما في كل المجالات العلمية.
بعض المثقفين العرب أكدوا بمصداقية ان ظهور فلسفة عربية أصيلة جديدة لن تتحقق الا اذا نشأت كجزء من الفكر الفلسفي الإنساني المعاصر، وما نشهده اليوم هو اتجاه معاكس بشكل مطلق. ان الانفتاح على الفكر الانساني وعلى الثراء الفلسفي للفكر الانساني لا يعني التخلي عن الأصالة الفكرية الانسانية العربية، بل بالاندماج وتبادل الاثراء بدل ظاهرة الذم بغباء وانغلاق ورفض يضاعف ابتعاد العالم العربي عن تيار الحضارة العالمية، وبالتالي تعميق الانقطاع عن مسار التاريخ المعاصر.
كما قلت ، لا ينشأ تيار سياسي أو ديني أو ثقافي أو اقتصادي أو أخلاقي بدون منهج فكري يشكل رؤيته الفلسفية. لكن الجمود العقائدي والذهني الذي ساد ويسود ثقافة مجتمع خلال عقود طويلة بدون أي اثراء جديد للفكر، يقود في النهاية الى الحالة التي نعاني منها، غياب فلسفة عربية أو دور عربي في الفلسفة .. والأصح غياب الفلسفة من المجتمعات العربية!!
بدون فلسفة لا تقدم ولا قدرة على تبني فكر الارتقاء من حالة التخلف بكل مجالات الحياة الى حالة بدء الاندماج بالحضارة الانسانية العالمية بالإثراء منها واثرائها بما انجز في التاريخ الحضاري العربي أيضا!!
اذن من الضروري لتطور فكر فلسفي عربي أن نكون على معرفة مستمرة بالتيارات الفلسفية المعاصرة والمشاركة النشطة في تشكيل الفكر الفلسفي الإنساني العالمي والاندماج به. من الضروري ان نفهم أيضا ان الفلسفة لا قومية لها، لأنها فكر انساني عالمي، بمعنى انها فكر لا يميز بين انسان وانسان، لذا من المضحك أحيانا التقسيم الإثني أو الديني للفلسفة.لا يمكن مثلا اعتبار ما يسمى فلسفة عربية بانها فكر خاص بالعرب ومشكلاتهم، وإنما باعتبارها فكرا إنسانيا بالمقام الأول. الحضارة العربية لم تخدم العرب فقط، بل القت بظلالها التنويرية على مجمل الحضارات العالمية. ان دور الفيلسوف ابن رشد(1126 - 1198) مثلا ما زال يبهر العالم كما كتب جورج سارتون (1884- 1956) وهو متخصص في العلوم الطبيعية والرياضيات؛ يعتبر أبو تاريخ العلوم:"ترجع عظمة ابن رشد إلى الضجة الهائلة التي أحدثها في عقول الرجال لعدة قرون. وقد يصل تاريخ الرشدية إلى نهاية القرن السادس عشر الميلادي، وهي فترة من أربعة قرون تستحق أن يطلق عليها العصور الوسطى، حيث أنها كانت تعد بمثابة مرحلة انتقالية حقيقية بين الأساليب القديمة والحديثة". اذن بفضل ابن رشد استوعبت اوروبا الحداثة وشرقنا تمسك بالماضوية. لذا ليس بالصدفة اعتبار الغرب لابن رشد انه العالم المؤثر والدافع الأعظم للتطور الحضاري في اوروبا، وهذا لا يمكن تحقيقه الا من خلال حركة فلسفية ذات اتجاهين، أولا ترجمة مستمرة للأعمال الفلسفية والأبحاث الفلسفية المعاصرة الهامة أولا بأول.. وإدخال موضوع الفلسفة لمناهج التعليم دون الدجل بتشويهها عبر تقسيمها الديني أو الاثني!
نبيل عودة