تقع على مؤسسات التعليم العالي وفي موقع القلب منها الجامعات مسؤولية كبرى في إعداد الشباب والعاملين بها لقيادة أي مجتمع، وبناء الإنسان القادر على التعامل مع تحديات المستقبل، إذ أنها تمثل قمة الهرم التعليمي، ليس لمجرد كونها آخر مراحل النظام التعليمي، وإنما لكونها تحتل أخطر وأهم مرحلة من مراحله، فهي تقوم بالدور القيادي في تطوير المجتمع وتحقيق أهدافه، كما يقع عليها مسؤولية إعداد الشباب بما يمكنه من تحمل مسؤولياته.
وتتمحور رسالة الجامعة التربوية بشكل أساسي في صقل شخصية طلبتها من الشباب، فالجامعات ومؤسسات التعليم العالي على اختلافها معنية بهذه الشريحة العمرية الهامة التي تعتبر مرحلة مهمة في عملية التغيير. فهذه الشريحة هي التي ترسم مستقبل المجتمع، لكونها القوة البشرية القادرة على النهوض، واحداث التطوير. كما أن هؤلاء الشباب تتشكل منهم قيادات المجتمع ونخبه السياسية والثقافية والعلمية مما يمكن المجتمع من متابعة مسيرته نحو التقدم والازدهار.
ويتوقف الدور المنوط بالجامعة في تطوير المجتمع، بقدرة الجامعة على القيام بالدور القيادي لها في حركة التغيير المجتمعي، وذلك بحكم المهام والوظائف المناطة بها وبفضل ما تتوافر لها من الكوادر البشرية والمقدرات العلمية الكفيلة بتمكينها من إدراك اهمية التغيير لاحتضانها الفئة الاكثر ادراكاً من عنصر الشباب والذي يمثل عادة العنصر الاكثر قبولا واستعدادا لفكرة التغيير.
والجامعة لا يمكنها أن تحسن تأهيل هذه الكوادر للقيادة، ما لم تكن هي نفسها تتولى مهمة قيادة حركة التغيير المجتمعي، وكما يقال: "ان فاقد الشيء لا يعطيه".
ومن خلال واقعنا الفلسطيني يلاحظ أن دور الجامعات في عملية التغيير اقتصر على افتتاح تخصصات جديدة لتلبــــــــية الطلـب الاجتمـاعي والتنموي الشديد على التعليم من قبل المجتمع المحلي، خاصة على ضوء ارتفاع تكاليف التعليم العالي في الخارج فـي ظل انخفـاض مستويات المعيشة فضلا عن صعوبة السفر والتنقل للخارج بسبب سياسات الاحتلال الإسرائيلي والحصار.
ولعل هذه الأسباب مجتمعة فضلا عن الاستلاب الثقافي والسياسي الذي مارسته السلطات المتعاقبة على المجتمع الفلسطيني لعقود من الزمن ترك أرضية هشة لواقع التعليم في فلسطين فقـد انتقلت كثير من مؤسسات التعليم العالي الفلسطينية من كونها حاضنة للعمل الوطني الى كونها حاضنة للأحزاب والقوى السياسية، والعشائرية مما أضعف من دورها في توجيه الرأي العـام المحلي الوجهة الصحيحة.
ولعل حالة الانقسام السياسي، ومحاولات الاستقطاب انتقلت الى الجامعات ومؤسسات التعليم العالي، مما ترتب عليه حالة من عدم الاستقرار للعديد من المؤسسات التعليمية، وسيطرة أجواء من القلق وضعف الأداء العلمـي لهذه الجامعات، فضلاً عن تحول بعض هذه المؤسسات كبيئة خصبة للتيارات السياسية والدينية وبالتالي تحكمها في كل إجراء أو قرارات وفعاليات تتعلق بتلـك المؤسـسات التعليميـة.
ولا شك أن هذه الحالة من عدم الاستقرار أثرت على تطور مؤسسات التعليم العالي بالرغم من التقدم النسبي الذي شهدته منذ قيام السلطة الوطنية الفلسطينية في العام 1994، الأمر الذي أضعف من قدرة الجامعات ومؤسسات التعليم العالي الفلسطينية على التغيير رغم أنه معلوم أن المهمة التي تقع على عاتق التعليم الجامعي هي تطوير الشخصية للفرد في المجتمع وإصلاحه وبناء ثقافة الفرد وفق الأسس والقيم الحضارية التي تجعل الفرد عضواً ايجابياً في المجتمع.
إن اعادة الاعتبار للجامعات ومؤسسات التعليم العالي الفلسطينية، يقتضي أن يكون لها رؤية في التعامل مع الوضع الراهن، وتوعية طلابها وطواقمها في كافة المجالات سواء السياسية أو الاجتماعية أو الثقافية، والابتعاد عن سياسة قمع أساتذة الجامعات وأعضاء هيئة التدريس من ذوي الرؤى المختلفة، والامتناع عن تهميش القانون أو تقويـة الـدور السلطوي لبعض الفئات في تلك المؤسسات.
ان الأوضاع الصعبة التي نعيشها تتطلب وقف تلك الممارسات التي أدت إلى هز الدعامات الأساسية للأستاذ الجامعي في بلادنا، وما صاحب ذلك من انكسار الذات وفقدان الثقة في ظل اسناد الأمر لغير أهله.
إن هذا الوضع بطبيعة الحال لا ينـسجم وطبيعـة عمـل الجامعـات وأهدافها ففي الجامعة يجب أن تعرف معنى الكلمة كونها الحد الفاصل بين نهاية التفكير وبداية التجـدد والجامعة أيضا منارة المجتمع ومصنع التفكير، فأساتذتها إن أخلصوا صاروا ورثـة الأنبيـاء ولـواء القادة وهم الحكم العدل في قضايا المجتمع.
إن الاختيار الناجح لقيادة التغيير له اهمية كبيرة في نجاحه، لذلك يجب ان يكون من هو في مرتبة الإدارة الأولى ملماً بالعملية وواضحاً في رسالة التغيير ومقبولاً لدى الموظفين المنفذين للتغيير حتى لا يواجه مقاومة تؤثر في النتائج المأمولة للتغيير. وقد يختار لهذا الهدف كوادر بشرية مؤهلة لتنفيذه بحيادية وموضوعية لما لذلك من اهمية في مصداقية خطة التغيير.
ان تحديد خريطة مؤسسات التعليم العالي بدقة من خلال رصد بنيتها المؤسسية، وطبيعة النخبة القائمة عليها، وحدود إدراكها ورغبتها في المشاركة في عملية التغيير، فهذا التحديد يوفر في الحقيقة امرا رئيسيا يتمثل في التعرف على طبيعة القوي السياسية والمدنية التي تقود عملية التغيير وتحدد مساره، فالجامعات لا تقف جميعها على نفس المستوي من الدفاع والقناعة بإعلاء قيم الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان وحرية الاختلاف والتعددية وهو ما تدل عليه ضعف مؤشرات الممارسة الديمقراطية داخل بعض مؤسسات التعليم العالي.
ومن هنا يبدأ بناء المجتمع الديمقراطي من خلال دور الجامعة في الإسهام بالتغيير الثقافي والمجتمعي عملياً بعيدا عن التنظير. فعندما ينسلخ الأستاذ من سلطوية القرون الوسطى ويقدم للطالب نموذجا مميزاً في شخصه وعمله وفكره فإن الطالب سيتماهى مع هذا النموذج ليعكسه في بيئته وعمله وفكره.
وفلسفة الجامعة ترتبط بفلسفة المجتمع، فإذا كانت فلسفة المجتمع تعني مجموعة القواعد والمبادئ والقيم والمثل التي تحكم سير المجتمع، فأن قيم المجتمع وتراثه الثقافي تؤثر في رؤية أهداف الجامعة واستراتيجيتها.
ان ثقافة المجتمع المتحضر تبدأ من الجامعة، تبدأ من القاعة الصفية. فلنبدأ بأنفسنا. نبدأ بخلق أجيال واعيه تؤمن بحقها في التفكير والتعبير عن الرأي وترفض كل أشكال الوصاية والقمع، ” فالقيادي الناجح لا يبني أتباعا بل يبني قادة".
د. أحمد إبراهيم حماد