فاز ترامب برئاسة الولايات المتحدة الأميركية على غير ما كان يرغب كثيرون حول العالم. لكن هذه هي الديمقراطية التي تقبل نتائج الانتخابات مهما كانت. خرج أناس يتظاهرون في شوارع أميركا ضد فوز ترامب، لكن صوت الديمقراطية بقي أقوى من أصواتهم، والقانون في أميركا هو سيد الموقف. عرب كثيرون ينهمكون في تقييم السياسة الأميركية المقبلة تجاه القضايا العربية بخاصة القضية الفلسطينية. وكما هي عادة العرب، انتظروا الانتخابات الأميركية طويلاً، وربما يضطرون للانتظار أربع سنوات أخرى عسى الانتخابات القادمة تخبئ لهم ما يمكن أن يسرّ بالهم.
ترامب لم يكن ابن المؤسسة السياسية الأميركية، ومعرفته في كيفية إدارة البلاد داخلياً وخارجياً ليست معرفة أهل البيت وأبناء النظام، ويبقى هو أحد الراصدين للسياسات الأميركية دون أن يكون مطلعاً بالضرورة على خفايا الأمور وتفاصيلها الدقيقة. نظيرته كلينتون كانت ابنة النظام، وكانت تعرف كيف يعمل، وتعي الوسائل والأساليب المستخدمة، وتعرف الأهداف الأميركية ما ظهر منها وما بطن.
ولهذا لا يعرف ترامب خفايا القضايا العربية بالتفصيل وبدقة، لكنه يعي أن هناك قضايا تتعلق بالنفط وإسرائيل والثروات العربية والحراك العربي والحروب الداخلية، وإذا أراد أن يساهم في البحث عن حلول لهذه القضايا فإنه سيحتاج بالتأكيد إلى وقت ليس بالقصير من أجل أن يرفع من مستوى معلوماته ومعارفه بهذه القضايا. سيستهك ترامب وقتا لا بأس به في التعلم على أيدي مختصين ومسؤولين في المؤسسة السياسية الأميركية. هذا ينطبق على القضية الفلسطينية وما يتشعب عنها من هموم ومشاكل فرعية. لكن يبدو أن ترامب لم ينتظر المدرسة لكي يتعلم حول القضية، وباح بما يتفاعل في صدره من عواطف ومحبة لإسرائيل والتراث اليهودي عموما.
ترامب اتخذ من إسرائيل قضية انتخابية، ولم يتخذ القضية الفلسطينية. لقد جعل من تأييده لإسرائيل موضوعاً انتخابياً، وكرر مواقفه التي تعد بتقديم مختلف أنواع الدعم لإسرائيل والمحافظة على أمنها ووجودها. تحدث ترامب مراراً عن الهوية الثقافية التي تجمع إسرائيل والولايات المتحدة من حيث أن التوراة التي بين أيدي اليهود هي العهد القديم، والإنجيل هو العهد الجديد، والكتابان يكملان بعضهما. وأشاد بإسرائيل على اعتبار أنها تنتمي إلى ما يسمى العالم الحر في حين أن جيرانها ما زالوا يتبادلون القتل وسفك الدماء. ولم يتوان ترامب عن التحدث في الجمعيات والمنظمات اليهودية والصهيونية، وكان يقدم نفسه على أنه نصير إسرائيل. ربما يختلف ما في داخل ترامب عما يبوح به أمام الناس، لكن دواعي الحملة الانتخابية تتطلب التقرب من اليهود والصهاينة لكسب المزيد من الأصوات.
هذا ومن المعروف أن ترامب يتبنى جدلية التخفيف من التدخل الأميركي في مشاكل العالم. ترامب يرى أن أميركا تتكبد الكثير من النفقات والعديد من النفوس عندما تتدخل في هموم العالم. أميركا تحشر أنفها في كل مشكلة تظهر في العالم سواء كانت داخلية أو بين الدول، وهذا أمر لا تحتاجه الولايات المتحدة، والأفضل لها أن تحافظ على أموالها وأبنائها. هو يتجه، وفق تصريحاته، نحو التقليل من التدخل أو عدم التدخل. وهذا ينطبق على القضية الفلسطينية. هو لا يرى أن على الولايات المتحدة أن تتدخل بالمزيد في الصراع العربي الإسرائيلي، ويرى أن على الفلسطينيين والإسرائيليين أن يسوّوا مشاكلهم فيما بينهم بالمفاوضات الثنائية المباشرة. طالما أن الطرفين توصلا إلى اتفاقيات في السابق فإنه بإمكانهما أن يواصلا المفاوضات حتى النهاية.
رؤية ترامب للصراع العربي الإسرائيلي تعني أن على العرب أن يعالجوا أمورهم بأنفسهم، وأن على العرب الذين يعوّلون على دور أميركا في حل الصراع أن ينتظروا نتائج الانتخابات القادمة بعد أربع سنوات. موقفه يخيب آمال القيادات الفلسطينية، وقيادات العرب التي ما زالت تشعر أنها متورطة في الانخراط في البحث عن حل مع إسرائيل.
من ناحية أخرى وبصورة متناقضة مع رؤيته يشترط ترامب على الفلسطينيين الاعتراف بيهودية إسرائيل. المفروض أن الذي لا يتدخل لا يفرض شروطا، وما دام الشرط قائما فإن على الفلسطينيين أن يفكروا في طريق آخر غير الطريق الأميركي.
وصرح ترامب أن الاستيطان الصهيوني لا يشكل مشكلة، وكونه كذلك فإن إسرائيل تحصل على تصريح مفتوح بزيادة أعداد مستوطناتها في الضفة الغربية ومواطنيها. ولم تتأخر إسرائيل في الاستجابة واتخذت قرارات جريئة بشأن مضاعفة أعداد المستوطنات والمستوطنين. وهذا ما يدفعها إلى الاستمرار في تهويد الضفة الغربية. إسرائيل تعمل على تهويد الضفة على ذات الخطى التي هودت فيها منطقة الجليل. عملت إسرائيل في نهاية الستينات وبداية السبعينات على مصادرة مساحات واسعة من منطقة الجليل لبناء المستوطنات والمدن، وذلك للقضاء على الوجه العربي للمنطقة وتغليب الوجه اليهودي. وأقامت في هذه المستوطنات العديد من المواقع الصناعية والمشاريع الاستثمارية من أجل استقطاب الأيدي العاملة العربية الفلسطينية والسورية والأردنية لاحقا. والهدف كان تحويل مستوطناتها إلى مراكز عمل ومصدر لقمة خبز العمال فيبقى العرب يدورون حول هذه المستوطنات وترسخ في نفوسهم أنها هي مصدر عيشهم فيتمسكون بوجودها. هكذا تفعل إسرائيل الآن في الضفة الغربية، وهناك أعداد متزايدة من الفلسطينيين تعمل في هذه المستوطنات، كما أن هناك أعدادا متزايدة من المستوطنين.
ومن المتوقع بعد ازدياد أعداد المستوطنين أن يطالبوا دولتهم بإقامة حكم ذاتي خاص بهم في الضفة الغربية كما يحظى الفلسطينيون بحكم ذاتي، ومن المحتمل أن يخوضو حرب استقلال ضد الفلسطينيين من أجل طردهم من البلاد. أي أن الأوضاع ستتفاقم بالمزيد، وسيجد الفلسطينيون أنفسهم أمام ما يجبرهم على امتشاق السلاح وخوض حرب تحرير شعبية.
الفارق بين ترامب ورؤساء أميركا السابقين بشأن الاستيطان أن السابقين كانوا يقولون إن الاستيطان عقبة في طريق السلام دون أن يصنعوا شيئا لمنع إسرائيل من الاستمرار في البناء. ترامب لا يقول هذه العبارة ولن يتخذ إجراءات ضد إسرائيل، وبما أنه يقول إن الاستيطان ليس مشكلة، فإن الاستيطان بالاسنتنتاج ليس عقبة في طريق السلام. كانت أميركا تقدم كل أنواع الدعم لإسرائيل مع الاستيطان، والآن ستستمر في ذات النهج.
من ناحية العولمة، من المحتمل ألا يكون ترامب متحمسا لفكرة العولمة وتحويل العالم إلى أميركيين بالتربية والثقافة. فإذا خفف من وطأة أميركا في هذا الأمر، فإن دولاً عديدة ستتنفس الصعداء قليلاً وستخف عنها الضغوط الأميركية. أي أن ترامب لن يعمل على تدمير الثقافات، وربما يرى الخير في التعدد الثقافي والفكري على المستوى العالمي. وهذا يعني أن أميركا تحت إدارته ستخفف ضغطها على العديد من الدول العربية، وستخفف من غلوائها في إخضاع العرب.
د. عبد الستار قاسم، أكاديمي ومفكر فلسطيني