عن العهد والمؤتمر

بقلم: عماد شقور

أما وقد وصلنا إلى استحقاق عقد المؤتمر السابع لحركة فتح، لنقف على مشارف تنفيذ استحقاقات وطنية فلسطينية شاملة، من مثل عقد المجلس الوطني الفلسطيني، وانتخاب لجنة تنفيذية جديدة، ورئيس للصندوق الوطني المؤتمن على المال الفلسطيني، ولانتخاب مجلس تشريعي جديد، واستحقاق إجراء انتخابات رئاسية تأخرت كثيرا، فإننا نكون قد وصلنا إلى مرحلة يمكن القول معها إنه أن الأوان، أن لم يكن قد فات، لكلام يجب أن يقال، ولموقف يجب أن يُعلن، ولقرارات لا تحتمل التأجيل.
لنضع النقاط على الحروف، معلنين بصريح العبارة، أنه يمكن للوضع الفلسطيني أن يوصف بكلمة واحدة، هي: سيّء. وإنْ احتاج التوصيف لكلمتين، فهما: سيّء جداً.
لهذا الوضع أسباب ومسبّبون، ظروف وفاعلون. ولا يجوز أن يغيب عن الذهن، أن الأسباب التي نعاني منها في هذه الأيام، والظروف السائدة أيضا، ليست بأي حال أسوأ وأصعب مما عاناه الفلسطينيون منذ النكبة. من هنا فإن الأسباب والظروف لا تشكل مبررا مقبولا لما نشهده من تراجع في المشهد الفلسطيني العام، وللتخاذل والركاكة في التفكير والتدبّر والأداء. نخلص من ذريعة الأسباب والظروف لنصل إلى المسبّبين والفاعلين. وأول هؤلاء الفاعلين: الحركة الوطنية الفلسطينية، ممثلة بمنظمة التحرير الفلسطينية. وبأكثر دقة: بالعمود الفقري للحركة الوطنية، وهي حركة فتح. وبأكثر من ذلك دقة وتحديدا: بجسمها القيادي، لجنتها المركزية، وصولا إلى رأس الهرم.
لا أسوأ، في العمل السياسي، من اللجوء إلى صيغة "الأفعال المبنية (المنسوبة) للمجهول". فلكل فعل في الكون فاعل. أما أن يكون الفاعل "مجهولا"، فتلك علامة على تقصير المسؤول، خوفاً أو جهلاً، عن كشف هوية الفاعل. وكما يجدر بالشعب أن يكرِّم من أجاد، وكانت كفّة إنجازاته الإيجابية تفوق إخفاقاته وأخطائه، فإن من حقه، بل من واجبه، قبل حقه، أن يضع النقاط على الحروف، حين تكون كفّة الإخفاقات هي الراجحة.
نبدأ من البداية: عهد جديد ورث عهد الراحل الكبير، الزعيم والقائد للعمل الوطني الفلسطيني لأربعة عقود، أصبحت كوفيته خلالها رمزا لفلسطين ومناضليها، وأصبح اسمه في بلاد وقارات بعيدة يضاهي اسم "فلسطين" ذاتها.
كان الأرث صعبا وثقيلا وفقيرا، دون أي رصيد في حساب الأخطاء التي يمكن السماح بها. إذ بعد أربع سنوات عجاف متخمة بالأخطاء، انكفأ الوضع الفلسطيني بكامله، وعلى كل صعيد، سنوات عديدة إلى الوراء.
ليس من العدل أن نسجل على حساب العهد الجديد كل ما شهدناه. إن جزءاً اساسياً من ذلك كان قد بدأ منذ بدء العودة إلى الوطن، أو إلى جزء من الوطن، بتعبير أدق. إلا أن وزن أبو عمار، بما له من تاريخ نضالي ووطني وإنساني مشرف وحافل، وما له من مكانة وموقع في نفوس شعبه، منَع تشظّي الوضع الفلسطيني. وليس من العدل تحميل مسؤولية ذلك على عهد أبو مازن.
هكذا بدأ العهد من نقطة لا يحسد عليها، وريثا لزعيم كاريزماتي بمقاييس عالمية، وإنسان مناضل صلب، وسياسي محنك، كريم اليد واللسان، وقريب من قلوب الناس، كل الناس. كانت تلك الوراثة أشبه ما تكون بوراثة الرئيس أنور السادات لعهد الزعيم العربي الكبير والخالد جمال عبد الناصر.
بدأ العهد الفلسطيني الجديد من نقطة تحت الصفر، وفي مرحلة انزلاق وتقهقر للعمل الوطني الفلسطيني برمته. تمكن هذا العهد من وقف التدهور. وحظي بقبول دولي واسع، وأصبح أبو مازن ضيفا مُرحّبا به في كل محفل دولي. كل هذا شكل رافعة كان يمكن لها أن تنقل الوضع الفلسطيني من حال إلى حال. وذلك ما لم يتم.
نجح العهد في رفع الوضع الفلسطيني إلى مستوى الصفر، مستوى سطح الأرض، لكنه فشل في التحليق إلى فضاء الأمل لإنجاز الأهداف الوطنية القابلة للتحقيق، والمتيسّرة السبل.
وصل العهد نقطة الصفر، واستراح. ولم يغادر.
اتخذ العهد وقائده، في أشهره الأولى، خطوة بالغة الإيجابية والأهمية، هي إقرار الانتخابات للمجلس التشريعي الفلسطيني، إلا أن هذا القرار الصائب، رافقه خطأ، وتلته خطيئة:
ـ كان الخطأ هو عدم وضع ضوابط للترشح، أهمها وأكثرها بديهية، إقرار واعتراف كل قائمة وكل مرشح بـ م.ت.ف. ممثلا شرعيا وحيدا للشعب الفلسطيني، والالتزام بما هي ملتزمة به من مواثيق واتفاقيات، وأهمها اوسلو، التي بفضلها، أساسًا، أمكن تشكيل المجلس التشريعي.
ـ أما الخطيئة فهي الانقلاب، عمليا، على نتائج الانتخابات، والتحايل الساذج لإخفاء ذلك. كانت المصلحة الوطنية الفلسطينية العليا، هي القبول بنتائج الانتخابات، والبحث عن أسباب الفشل، وتحمّل جميع مسببيه، الذين أقصاهم شعبهم عن السلطة، للمسؤولية، باستقالاتهم أو إسقاطهم داخل الأطر التنظيمية.
هذان الخطأ والخطيئة، وفّرا الذريعة لحركة الإخوان المسلمين، ممثلة بأداتها الفلسطينية، حركة حماس، لتنفيذ انقلابها العسكري الدموي البشع.
لحقت بالخطوة الإيجابية الأولى للعهد، خطوة إيجابية ثانية تسجل له، هي عقد المؤتمر السادس لحركة فتح. إلا أن هذه الخطوة الإيجابية أيضا، شابتها تجاوزات، دافعها حسابات شخصية، استهدفت قطع الطريق على الوريث الطبيعي للعهد، ولو لفترة زمنية قصيرة، يصير خلالها تأهيل وريث من الجيل الثالث.
لكن الاستقرار، حتى عند مستوى الصفر، لم يدُم طويلا، إذ انزلق الوضع الفلسطيني إلى مستوى معارك داخلية مع الأقوى بين حلفاء صاحب العهد نفسه لسنوات، بتوجيه اتهامات تعود لمرحلة زمن التحالف والتعاون بين صاحب العهد وصاحبه "اللدود". وبهذه السياسة انقطع تميّز فتح، صاحبة شعار أبو عمار: دع ألف زهرة تتفتح في بستان الثورة، والذي اقتبسه من تجربة الثورة الصينية. هذه السياسة خلقت حالة رعب غير مسبوقة في صفوف حركة فتح بفعل إجراءات غير مسبوقة أيضا، جعلت أفواه أعضاء فتح في جميع المستويات العليا، دون استثناء، وربما عقولهم أيضا، في حالة شلل تام، لكأننا نعيش عهداً يُقصي بدل أن يجذب، ويُبعد بدل أن يقرِّب، ويطرد بدل أن يُرحّب. بل ووصل الأمر حد قطع لقمة العيش، بمصادرة رواتب بعض المتقاعدين، رغم أن هذا النوع من الرواتب يدفع لمستحقيه مقابل عمل قاموا به، لا مقابل عمل يقومون به في الحاضر أو المستقبل، يمكن لصاحب القرار وقفه.
هذا على الصعيد التنطيمي الفتحاوي. فماذا عن الوضع على الصعيد الوطني الفلسطيني؟ وعن الوضع على الصعيد العربي؟ وكذلك على الصعيد الدولي؟
لا تتسع مساحة المقال للافاضة والتوضيح.
آن لهذا العهد أن يغير نهجه وأسلوبه، فتتغير أدواته وطريقة تفكيره.
آن لهذا العهد أن "يهدّي اللعب"، حفاظا على الوحدتين: التنظيمية والوطنية، والمصلحة الوطنية العليا.
آن لهذا العهد أن يتصرف بحرص تجاه ما سيقوله التاريخ وكُتبه عنه.
فما زال الباب مفتوحا. ولم نصل بعد إلى مرحلة جردة حساب نهائية، تحت عنوان: "العهد…ما له، وما عليه".

عماد شقور

٭ كاتب فلسطيني