الحرائق في كيان الإحتلال ليس بالحدث الجديد , بل تكررت تلك الحرائق في مثل هذا الموسم مرات ومرات , كان أخرها قبل ستة سنوات تقريبا , حيث وقع حريق الكرمل الشهير بتاريخ 2-12-2010ميلادية, وتسبب ذلك الحريق الهائل بمقتل أكثر من 44 "إسرائيلي" أغلبهم من سجاني سجن الدامون في شمال فلسطين المحتلة, وذلك بعد إحتراق حافلتهم التي حاصرتها النيران في جبال الكرمل , تم وصف الحريق في حينه بأنه كارثة كبيرة , وطلبت حكومة الإحتلال المساعدة في إطفاء الحريق من العديد من الدول , أبرزها الولايات المتحدة وبريطانيا وروسيا وفرنسا وقبرص واليونان وتركيا , وتطوعت الأردن والسلطة الفلسطينية وشاركتا بالفعل في مهمة إخماد الحرائق في جبال الكرمل , ما أشبه اليوم بالبارحة , يتكرر نفس المشهد وتندلع النيران في الأحراش والغابات , ويساق الإتهام للفلسطينيين ويتم التعامل مع الحريق بالعقلية الصهيونية التي تنظر لكل حدث من منظور أمني بحت , وأن الحرائق متعمدة وتأتي في إطار النشاط المعادي لكيان الإحتلال , ويتم إلصاق التهمة بالفلسطينيين بدون تقصى أو تحقيق وهذا ما جاء في تصريحات قادة الإحتلال , حيث زعم نتانياهو أن غالبية الحرائق تمت بفعل فاعل ورجح أن تكون الخلفية قومية , وكذلك الوزير الأمن الداخلي الصهيوني جلعاد أردان في تعليقه على الحرائق التي شهدتها مدينة حيفا يقول يجب أن تستعد "اسرائيل" لنوع جديد من "الإرهاب" , وفي نفس السياق جاءت مزاعم وزير التعليم الصهيوني نفتالي بينت , بأن ما توجهه "إسرائيل" اليوم ليس سلسلة من الحرائق، وانما موجه من "الإرهاب " من قبل ما أسماهم "مخربي الحرائق" , وكان التناغم واضحاً بين تلك التصريحات والتغطية الإخبارية في الإعلام العبري , حيث عنونت القناة العاشرة الصهيونية , خلال موجة التغطية الإخبارية المباشرة بعنوان" إرهاب الحرائق", ومن أجل تسويق تلك الرواية , أعلنت قوات الإحتلال إعتقال (14) فلسطيني بتهمة إشعال الحرائق في مدينة حيفا والقدس المحتلتين .
ومما سبق من الممكن أن نستخلص بعض الإشارات والحقائق التي من الجيد التنويه إليها وفي مقدمتها بأن كيان الإحتلال هو كيان هش وضعيف , تنكشف عورته وينكسر عموده الفقري عند أي تهديد حقيقي وقوي لوجوده , وهذا ليس من باب المبالغة فالوقائع والأحداث تؤكد ذلك, ولعل الأشهر الأولى لإنتفاضة القدس كانت خير دليل , حيث تصدعت منظومة الأمن الشخصي وأصيب الكيان بحالة من الإرباك , وتعطلت كل المصالح الحيوية لديه , واليوم يقف الكيان في حالة عجز واضحة , أمام إندلاع الحرائق في بعض المدن أو المستوطنات , ويسارع إلى طلب المساعدة من الخارج لإخماد تلك الحرائق , وهذا بحد ذاته يضرب في عمق الشعور الصهيوني بهشاشة كيانه الإحتلالي , وأنه لا يملك عوامل البقاء والإستمرارية تحت ظروف طارئة وغير عادية , وهذا الهاجس طرحته القناة العاشرة الصهيونية بصراحة , بعد الفشل في السيطرة على الحرائق , حيث جاء في أحد تقاريرها , لقد ظهر بشكل واضح ما هي الاستعدادات لمواجهة الحرب القادمة , عندما يتساقط 1000 صاروخ يومياً على الكيان الصهيوني, وهنا يتضح لنا بأن هذا الكيان الإحتلالي لم يواجه خطراً أو تهديداً وجودياً منذ إحتلال الغاشم لفلسطين في العام 1948 ميلادية ,ولإيضاح ذلك لعلنا نستذكر الفرح والسعادة التي شعرت بهما جولد مئير رئيسة الحكومة الصهيونية, عندما إستيقظت في صباح اليوم التالي لحرق المسجد الأقصى في العام 1969 ميلادية , فلم ترى الجيوش العربية والإسلامية التي كانت تخشى تحركها إلى فلسطين غضباً لإحراق الأقصى , فجولد مئير كانت وقتها تشعر بخطر حقيقي على كيانها يهدد وجوده وبقائه, ولكنه لم يتحقق فلقد كان العرب في سبات عميق .
والإشارة الثانية بأن هذا الكيان لا يقوى على مواجهة أي خطر أو تهديد الا بمساعدة خارجية , فعلى صعيد المواجهات العسكرية والحروب , كانت الجسور الجوية تقام من الولايات الأمريكية والدول الغربية من أجل إمداد كيان الإحتلال بالعتاد الحربي , لضمانه تفوقه العسكرية على الجيوش العربية وعدم هزيمته , بالإضافة إلى الدعم السياسي في المحافل الدولية لضمان عدم إدانته في أياً من الجرائم التي يرتكبها في عدوانه على الشعب الفلسطيني والدول العربية , ليتأكد لنا بأن هذا الكيان صنيعة الدول الإستعمارية الكبرى , والتي أسكنته خنجراً في قلب الأمة العربية , لذلك تراهم يهبون لنجدته ودفع الأخطار المهددة لبقائه , والا فأين تلك الدول التي تحاول صبغ تحركاتها بالإعتبارات الإنسانية , من حرق المسلمين وبيوتهم ومدنهم وقراهم في إقليم أراكان في بورما ؟! , أين تلك الدول من وقف النيران التي صُبت على قطاع غزة في ثلاثة حروب وحشية ضد المدنيين العزل ؟! , أين تلك الدول من حمم النيران التي تتساقط على رؤوس الابرياء السوريين في حلب من قبل الطائرات الروسية ؟! , فلقد كشفت الحرائق في فلسطين المحتلة إزدواجية المعايير التي تتبعها الدول الغربية فيما يقال عنه تحركات إنسانية , أو مهمات إنقاذ البشر من الكوارث , فلا تراها تتحرك سريعاً الا إذا تعرض كيانهم الإحتلالي لخطر داهم , ومن هذه الإشارة نستخلص أن هذا الكيان الهش لا يقوم الا على المساعدة والدعم الخارجي ويعتمد عليهما بشكل إستراتيجي في وجوده على الأرض الفلسطينية , ويمكن أن نفهم ذلك بالنظر على الحقيقة القائلة بأن هذا الكيان , بمثابة مستعمرة متقدمة , من بواقي المستعمرات الغربية في المنطقة العربية .
الإشارة الثالثة أن الأنظمة العربية التي شاركت في مهمة إطفاء الحرائق في كيان الإحتلال في حالة إنسلاخ عن شعوبها , والتي رأت في المشاركة في إطفاء الحرائق , خيانة جلية بمد يد العون للعدو الغاصب لأرض العرب والمسلمين , فلم تقبل الجماهير العربية هذا العمل , ورفضت كل التبريرات التي سيقت للدفاع عن المشاركة , وإلا أين التحرك العربي لإطفاء الحرائق وقف الحروب وإنقاذ الجوعى في كثير من البلدان العربية والإسلامية ؟! ولماذا لا نرى النخوة العربية تتحرك الا إتجاه "إسرائيل" ؟! الا أن هذا التحرك العربي الرسمي يكشف إصرار الأنظمة على تطبيع العلاقات مع كيان الإحتلال , متناسيه جرائم الإحتلال في فلسطين , ومتغافله عن أخر تلك الجرائم بإستهداف عقيدة المسلمين بمنع رفع الآذان, في إطار سعي كيان الإحتلال لتهويد الزمان والمكان في فلسطين , وهي بالتالي تتراجع في نصرة القضية الفلسطينية لصالح البرنامج الأمريكي الذي يسعى لدمج الكيان الصهيوني في المنطقة العربية , وهذا ما سمح لنتانياهو التبجح بالقول , بأن هناك حلفاء لكيانه من الأنظمة العربية في حربه ضد ما أسماه "الإرهاب " الفلسطيني ! .
الإشارة الرابعة والأخيرة تتعلق بمشاركة السلطة الفلسطينية في المساهمة بإطفاء الحرائق, والذي بررته السلطة بأنه يأتي في إطار الرسالة الإنسانية التي يحملها الدفاع المدني الفلسطيني , وهذا لا ينطلي على أصغر شبل فلسطيني , فأين أنتم من معاناة أبناء قطاع غزة في قطاعات الصحة والتعليم والكهرباء وغيرها , فلماذا لا تسدوا الخلل وتجبروا النقص فيها , من باب الرسالة الإنسانية؟ أم أن إنسانيتكم تظهر للعدو وتحتجب عن الأخ ؟! , أين أنتم من الحرائق التي تشتعل في قلوب المرضى وذويهم, وهم لا يلقون علاجاً أو سبيلاً إلى علاج ؟ أين أنتم من جيلاً بأكمله, كنتم الطرف الرئيسي المشارك بقوة , في تعطيل تطوره ونهوضه نحو مستقبل مشرق , عبر الإيعاز بتشديد الحصار وإغلاق المعابر؟!, ولكن فعلكم هذا لا يتعدى إطار الإرتماء في أحضان الإحتلال تجسيداً للإرتباط الفعلي لوجودكم وبقائكم بالعلاقة مع الإحتلال , فلا يمكنكم الإنفكاك عن ركبه ,وإلا أصبحتم في مهب الريح , وبذلك يستمر إستجدائكم للتسوية مع الإحتلال عبر رسائل الخنوع بالمشاركة في جنازة الهالك بيرس, أو المساهمة في إخماد الحرائق, ورغم أنكم تقدموا فروض التبعية والإعتراف , فإنهم لن يرضوا عنكم مهما صنعتم , حتى ولو لم تتكلموا بأي حق لكم في صفد أو حيفا , حتى لو إعترفتم بكيانهم وأسميتموهم جيران , لذلك كان رد الوزير الصهيوني بينت صارخاً كلسان حال للمجتمع الصهيوني , في وجه مشاركة السلطة في إطفاء الحرائق قائلاً " لا نريد مساعدتكم " ! .
بقلم : جبريل عوده *
كاتب وباحث فلسطيني
26-11-2016م