رحّبت فصائل فلسطينية عدّة بمُبادرة الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي الدكتور رمضان عبد الله شلّح لتسوية الخلافات الداخلية الفلسطينية إلا من حركة فتح التي تُعتبر حزب السلطة. والسلطة الفلسطينية صمتت إزاء المُبادرة ولم تعلن أي ردّ فعل تجاهها. وبالرغم من ترحيب الفصائل بالمُبادرة إلا أننا لم نرِ حتى الآن حركة تُشير إلى أن هناك نيّة لتفعيل نقاش وجدل حول المُبادرة، ولم نسمع عن دعوة للقاء قادة الفصائل للتداول وإخراج وثيقة مُشتركة تُعرض على الشعب الفلسطيني كإطار للسيطرة على الخلافات الداخلية ، وتحقيق الوحدة الوطنية الفلسطينية. يبدو أن ردّ الفعل العملي الوحيد قد صدر عن مصر التي دعت الدكتور شلّح لزيارتها والبحث في ما طرحه.
لقد وضع الدكتور شلّح في مُبادرته إصبعه على الجرح عندما صدّرها بضرورة إلغاء اتفاق أوسلو، فهو يعرف أين العلّة الحقيقية على الساحة الفلسطينية، وإذا زالت العلّة زال المعلول. أما باقي بنود المُبادرة فمُرتبطة في أغلبها بالبند الأول، ولا تتحقّق إلا إذا تحقّق المبدأ الأول. النقطة الأولى بمثابة الافتراض الأساسي الذي تُبنى عليه الاشتقاقات التي تلي، وإذا كان الافتراض صحيحاً فإن الاشتقاقات التي تلي صحيحة، وإذا كان الافتراض غير صحيح فإن كل الاشتقاقات التي تلي تكون مبنية على خطأ وبالتالي خاطئة. وتقديري أن الافتراض لدى الدكتور شلّح صحيح على الأقل من زاوية خبرتنا العملية التي نمرّ بها في فلسطين كل يوم.
الافتراض صحيح لأن هدم البيت الفلسطيني مبني باتفاق أوسلو، حيث أن الاتفاق يضع الفلسطيني ضدّ الفلسطيني، ولا يُعالج الخطر الداهِم قبل أن يقع. الاتفاق يخالف الميثاق الوطني الفلسطيني الذي كان معمولاً به وقت توقيع الاتفاق، كما أن الشعب الفلسطيني لم يشارك على الإطلاق في أي نقاش حوله، وكذلك الفصائل والأحزاب الفلسطينية. قام على الاتفاق ثلاثة أشخاص فقط ثم أُسقط على الشعب بمخالفة واضحة وصريحة للقانون الثوري لمنظمة التحرير الفلسطينية التي تقول إنها راعية الاتفاق. وخالف الاتفاق قرارات المجالس الوطنية الفلسطينية المُتعاقبة إلا من قرارات عام 1988والتي كانت أيضاً مخالفة لكل المواثيق والعهود الفلسطينية. أي أن اتفاق أوسلو وما بُني عليه من اتفاقات بعد ذلك لا شرعية فلسطينية له.
أما من الناحية العملية، فقد عانت الساحة الفلسطينية كثيراً من هذا الاتفاق وما زالت المُعاناة مستمرّة. لقد فرض الاتفاق التزامات على الفلسطينيين لا يمكن إلا أن تقود إلى الشقاق والخِصام وعلى رأسها التنسيق الأمني مع الاحتلال. نصّ اتفاق أوسلو على إنشاء لجنة أمنية مُشتركة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وكان اتفاق أوسلو 2 أو اتفاق طابا أكثر وضوحاً وصراحة عندما ألزم السلطة الفلسطينية بملاحقة من سُمّاهم الإرهابيين الفلسطينيين والامتناع عن ملاحقة الجواسيس والعملاء الذين اشتغلوا لمصلحة الاحتلال على حساب المقاومة الفلسطينية. الإرهابيون تعني المقاومين الفلسطينيين الذين يقاومون الاحتلال وتحظى أعمالهم بشرعية القانون الدولي الذي يُجيز مقاومة الاحتلال بكافة الأشكال المُتوفرة بما فيها المقاومة المُسلحة. وسرعان ما نفذّت السلطة الفلسطينية التزاماتها تجاه الأمن الإسرائيلي وأخذت تعتقل الفلسطينيين المقاومين أو من لديهم نوايا لمقاومة الاحتلال وتزجّهم في السجون الفلسطينية التي تكاثرت مواقعها في الضفة وغزّة. وشكّل هذا الأمر أكبر ضربة للنسيجين الاجتماعي والأخلاقي الوطني للشعب الفلسطيني، وأذِنَ بتنافُر حاد بين الناس مُتصاعد مع الزمن، وبزرع الكراهية والبغضاء والأحقاد في صفوف المجتمع. ولم تكن قيادة منظمة التحرير وحدها هي التي تتحمّل مسؤولية هذا التطوّر، وإنما تتحمّل قيادات كل الفصائل الفلسطينية المسؤولية لأنها صمتت إزاء انتهاك القوانين والقرارات والمواثيق الفلسطينية.
من ناحية أخرى، فتح اتفاق أوسلو الباب أمام دول عربية للسير نحو اتفاقات مع إسرائيل، وفتح المجال للتطبيع مع إسرائيل على المستويات الفلسطينية والعربية والإسلامية، وبات الفلسطينيون أكثر الشعوب العربية تطبيعاً مع الصهاينة. وعلى مستوى المواجهة مع الصهاينة تطوّر نوع من التعايش مع الاحتلال على الساحة الفلسطينية، وبرز فلسطينيون يُقرّون بحق إسرائيل في الوجود، و من دون أن يطالبوا بعودة اللاجئين الفلسطينيين. وبما أن منظمة التحرير اعترفت بالكيان الصهيوني، فإن أعداداً لا بأس بها من الشعب الفلسطيني باتت تعلن صراحة أنها تعترف بإسرائيل. أي أن المُحرّمات الفلسطينية أصبحت مُباحة، وهناك مَن يُجاهر بالخروج عنها.
ولهذا أتى البند الثاني في مبادرة الدكتور شلّح رافضاً للاعتراف بإسرائيل ومطالباً القيادات الفلسطينية التي هي غير شرعية وفق القانون الثوري لمنظمة التحرير ووفق القانون الأساسي للسلطة الفلسطينية بسحب الاعتراف بإسرائيل. كانت مسألة عدم الاعتراف ورقة قوية بيد الفلسطينيين من حيث أنها تؤكّد على الإصرار على استعادة الحقوق الوطنية الثابتة للشعب الفلسطيني، لكن هذه الورقة سقطت مع الاعتراف، وتحوّل البحث عن الحقوق إلى مساومة على الحقوق ومن دون وجود نص يُلزم إسرائيل بفتح مجال لإقامة دولة فلسطينية. ولهذا لم يُعالج اتفاق أوسلو الحقوق الفلسطينية واكتفى بإقامة حُكم ذاتي فلسطيني هزيل والذي هو بالأساس مطلب إسرائيلي وليس فلسطينياً. عملت إسرائيل منذ عام 1968 على تسليم الضفة الغربية وغزّة لإدارة عربية أو فلسطينية لأنها أرادت أن تتخلّص من صورتها كدولة مُحتلّة، وأن تلقي بمسؤولية إدارة شؤون الناس على عرب أو فلسطينيين بصورة خاصة. ولكن الفلسطينيين أصرّوا على أن قبول الحُكم الذاتي خيانة عُظمى، ويستحق الذين يقبلونه الإعدام. فلم يتسنّ لإسرائيل مطلبها إلا بعد مؤتمر مدريد عام 1991. تجاهل اتفاق أوسلو كل الحقوق الوطنية الفلسطينية وعلى رأسها حق العودة وحق تقرير المصير، وألزم الفلسطينيين بمسؤولية إدارة شؤون السكان وما يترتّب على ذلك من مسؤوليات مالية.
وطالب الدكتور شلّح بإعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية بحيث تشارك جميع الفصائل بما فيها حماس والجهاد الإسلامي في تشكيلها وفق ميثاق وطني فلسطيني جديد يُعالج مختلف المُستجدات على القضية الفلسطينية والمنطقة عموماً. وهذا مطلب سبق الاتفاق عليه بين الفصائل الفلسطينية في القاهرة عام 2005. اتفقت الفصائل على إعادة بناء المنظمة وضرورة الشروع في ذلك على الفور، لكن خطوة واحدة بهذا الاتجاه لم تُتخذ، وبقيت المنظمة على ما هي عليه من دون حراك. علما أن كل مجالس المنظمة مثل اللجنة التنفيذية والمجلس المركزي والمجلس الوطني غير شرعية لأنها جميعها تخالف لوائحها الداخلية، وجميعها وافقت على إلغاء مصدر شرعيّتها وهو الميثاق الوطني الفلسطيني. ألغت المنظمة عدداً من بنود الميثاق، وعدّلت عدداً آخر إلى درجة الإلغاء ولم تبق منه إلا البنود الخاصة بكيفية تعديله.
ورّطنا اتفاق أوسلو أيضاً اقتصادياً ومالياً بحيث أدّى إلى توقيع اتفاق باريس الاقتصادي الذي شكّل حبل مشنقة حول رقاب شعب فلسطين. لقد وضعت القيادة الفلسطينية إلى حد كبير لقمة خبز الشعب الفلسطيني بيد أعداء الشعب الفلسطيني وقيّدتهم مالياً بإرادة هؤلاء الأعداء. وبسبب الترتيبات الاقتصادية تم طرد المُنتجين الفلسطينيين مثل الخياّطين والنجّارين والنسّاجين والنعّالين من السوق لصالح البضائع المُستوردَة، وتم زيادة أعداد الموظفين الحكوميين بأعداد مُذهلة لا تحتاجها الشؤون الإدارية الفلسطينية. وقد كان من المُتعمد خفض أعداد المُنتجين وزيادة أعداد الموظفين من أجل أن يرتفع مستوى اعتماد الشعب الفلسطيني على أعدائهم فلا تكون لهم إرادة سياسية حرّة. تورّط الشعب الفلسطيني بميزانية رواتب أخذت ترتفع مع الزمن من دون أن يكون هناك إنتاج فلسطيني مُتناسب مع تكاليفها.
باختصار، وضع الدكتور شلّح إصبعه على الجُرح، ويجب أن تتضافر الجهود لعمل شيء ما يُخرِج القضية من مكانتها المُتدهورة، ويُعيد للشعب الفلسطيني تلاحمه الاجتماعي ووحدته الوطنية. الخطابات الرنّانة حول الوحدة الوطنية والتصريحات النارية تحتاج إلى عمل مُثمِر يجعل لها صدقية.
د. عبد الستار قاسم، أكاديمي ومفكر فلسطيني