هناك من فوجئ بل واغتاظ مما صرح به بنيامين نتنياهو وبعض وزرائه ضد مواطني الدولة العرب، وذلك على خلفية انتشار الحرائق في عدة مواقع ومدن عربية ويهودية، فهؤلاء يؤكدون مجددا أنهم لم يستوعبوا طبيعة النظام الحاكم في إسرائيل، ولا ما يعتمده ساستها من آليات مجربة في تاريخ الأمم وديماغوجيات مدروسة، وهي تستهدف تمتين نهجهم العنصري العدائي الذي لا ينمو إلا على ألسنة النيران وجلد الضحايا التي كانت وستبقى متهمة ومسؤولة عن كل ضيم يحل، وجريمة تتفشى، ومصيبة تنزل على الدولة ومواطنيها، حتى لو كانت كل المؤشرات والدلائل تؤكد على استحالة صحة فرياتهم وعلى انعدام المنطق السويّ فيها.
ففي حين لمّح نتنياهو وبينيت وغيرهما، مع بدايات الحرائق، أن مواطنين عربا تعمدوا إشعالها بدوافع قومية، نقرأ بيانا نشرته قبل يومين الناطقة بلسان الشرطة الإسرائيلية تقول فيه: "إنه ولتفنيد الشائعات وتجنب تقديم البيانات التي لا أساس راسخ لها وحتى أن في بعضها تضليلا للجمهور، أود أن أوضح أنه وفي الوقت الحاضر هناك عدد كبير من التحقيقات المفتوحة ذات الصلة بكل ما يتعلق بموجة الحرائق الأخيرة. وكذلك أؤكد أن مجرد التحقيق ليس بمؤشر على وجود جريمة الإحراق العمد".
لا أفهم ما أهمية تعميم مثل هذا البيان في وقت متأخر، وكلنا يعرف أن من حرضوا على المواطنين العرب نجحوا عمليا في جني وترصيد وزنات راجحة من مشاعر الكراهية، وقاموا بإيداعها في صناديق الحقد وحسابات أحزابهم التي لا تستطيع العيش في عالم السرو والصنوبر الأخضر، بينما تشتد سواعدها وتكبر قاماتها فقط في غابات النار وما تخلفه من نثار أسود ومراعٍ للقهر وللفيروسات المميتة. فوفقا للناطقة بلسان الشرطة نفسها وحسب ما أفاد به مسؤولون في مديرية سلطة الإطفاء والإنقاذ، تم تسجيل حرائق في نحو 1773 ميدانا في شتى أنحاء البلاد، وكفى بهذا المعطى برهانا على خطورة ما أشاعوه بحق المواطنين العرب خاصة إذا عرفنا أن عدد جميع من اعتقلوا لم يتجاوز الثلاثين في حين لم يثبت، حتى كتابة هذا المقال، أن منهم من تعمد إشعال النار لأسباب قومية أو عدائية.
المثير في كل ما حصل سنجده، مرّة أخرى، في ردود فعل بعض الشخصيات العربية، المحلية والبعيدة في الخارج، التي عبرت في الصحافة والإعلام عن فرحتها الكبرى بتلك الحرائق ومنهم من ردد منتشيا ومؤكدا، أن "إسرائيل تحترق"! وعززوا قناعتهم بكلام عن الملائكة ومن السماء، في حين كان آخرون يرون نهاية "الشيطان" تتحقق وهم سابحون على أجنحة المنى المتكسرة وراكبون على سنامات ملأى بالشحم والوهم وتجري وراء خيالات مريضة والسراب.
أحلام هؤلاء الأشقاء العرب المستلة من نيران تلتهم الكرمل، وتحريض نتنياهو ورهطه على عرب الكرمل وأشقائه، هما وجهان للعملة نفسها، بينما يبقى الفارق والحسم فيمن يتحكم بقذف هذه العملة في الريح، ويحدد ميعاد ووجهة سقوطها، فأنا على يقين أنهم حكام إسرائيل وساستها من أحزاب اليمين المغرقين في عنصرية لا تعرف حدا لشهوة الحقد والقمع، في حين يتبقى للعرب، كما دائما، حداءات السقوط والخسارة.
المحرومون من همس النجوم للقمر ومن فوح عطر البرتقال وسيافو الزهور لن يميّزوا بين وجع أصحاب السنديان المحترق، وصمم من يقتلون عنفوانه الشاهد الباقي على مذابح تاريخنا، من عهد إيليا إلى عهد دافيد، والخاسرون لأوطانهم الحقيقية- لأنهم يعيشون في الظلمة ودهاليز القواقع وتحت سطوة استبداد يحسبونه خيار البشر الوحيد- لن يستوعبوا فقه الدمعة، وهي تتساقط ساخنة من عيني أيمن وحدقتي أحمد وأهداب جعفر؛ فما تعرى على سفوح الكرمل في تلك الليالي الحارقة كان، في الحقيقة، جذور الحكاية وأصل تغريبتنا المشقية، ومعها تكشفت أسراب الحجل التي سمعناها من مواقعنا وهي تكركر بين الشجيرات المقاومة وتؤكد لوجهي العملة إياها:
"نحن في حل من التذكار، فالكرمل فينا، وعلى أهدابنا عشب الجليل، لا تقولي: ليتنا نركض كالنهر إليها لا تقولي! نحن في لحم بلادي… وهي فينا!".
نعم هكذا كانت صرخات أيمن عودة مدوية تقض مضاجع السفهاء والعناتر وجميع العنصريين- فمن يحرق كرملنا.. من يحرق وطننا! إنها بلادنا، التي نفديها، ولن نقف كما لم نقف أبدا على الحياد، ولن نكون شهودا على رمادها وخرابها، فانظروا إلى بحرها لينبئكم من أين جاء ملح الأرض، والتفتوا نحو الصبر والتين والزيتون عساكم تكتشفون كيف التصقت السمرة في وجوهنا ووجوه أبنائنا.
لم يكن أيمن الحيفاوي وحيدا، فمثله صاح أحمد الطيباوي في وجه سكان "البيت اليهودي" وأشباههم، من ساسة وإعلاميين ومحللين، ومعنفا جميع المصطادين في زلات القدر بأن: كفوا عن مدائحكم للحرب، أوقفوا أنهار الدم المشتهى في أحلامكم، فنحن هنا، في الكرمل والقدس والنقب، باقون لنحمي البلاد، بلادنا، من الصقيع والنار والبَرَد. هراء ما تشيعون وتحاولون نفثه وعبثًا ما ترددون.
كم أغاظهم حديث الوطن هذا وأفقدهم رشادهم. فالكرمل لم يكن في تلك الليالي مباحا لعواء الذئاب ونعيب البوم وبخلاف مواقع كثيرة كانت تأكلها النيران برزت المعركة لإنقاذه بملامح ساطعة مغايرة، فعلاوة على تلف العديد من البيوت وتهديد كثير من الأحياء السكنية ونزوح عشرات الآلاف عن منازلهم، عكست أحداثها جملة من المفارقات والمشاهد التي من شأنها أن تختزل طبيعة صراعنا، نحن المواطنين العرب، مع سياسات أجهزة الدولة وممارساتها القمعية تجاهنا في الحياة اليومية الروتينية وفي أوقات النوائب والرزايا كذلك.
فلقد جسد انخراط قادة عرب بارزين ووقوفهم في وسط ألسنة اللهب ومؤازرتهم الصادقة لأصحاب البيوت المنكوبة، حالة استثنائية لمعنى شعار النضال العربي اليهودي، في واحدة من تجلياته الطبيعية القصوى والتي، في المقابل، حاول ساسة اليمين حجب مفعولها وتشويهها من خلال تحويل سهام هجماتهم ورشقها صوب من جسّدها في حضن الكرمل مثل أيمن عودة وأحمد الطيبي اللذين اتهما من قبل معظم مغردي اليمين الفاشي كمن يسعرون النار في الليالي ويحاولون في النهارات إطفاءها.
إلى جانب عودة والطيبي وقف العشرات من أهالي حيفا العرب وأصحاب المهن والمطاعم والمؤسسات المدنية وجميعهم عملوا على مساعدة المنكوبين بما استطاعوا إليه سبيلا؛ ولربما نجد في ما قاله السيد جعفر فرح مدير عام مركز "مساواة" لحقوق المواطنين العرب في إسرائيل وصفا لافتا لما جرى في تلك الساعات، فهو وكثيرون يعرفهم تواجدوا إلى جانب أهالي سكان الأحياء المنكوبة وقدموا لهم مختلف أصناف الدعم والمساندة.
وصفه لتلك التجارب المشبعة بإنسانية نقية وكيف كان تعاطي السكان اليهود معها جدير بالعناية والمتابعة، فعلاوة على بعدها الأخلاقي البارز، ينوه جعفر إلى ضرورة إيماننا، كأقلية عربية كبيرة، بقوتنا وبوزننا النوعي وتجسيد ذلك عن طريق إصرارنا على التفاعل مع الأحداث مهما كانت جسيمة، وقناعتنا بقدراتنا على التأثير من دون أن نتردد أو نخشى عواصف العنصريين وهجماتهم المسعورة.
جعفر الذي صرخ كصديقيه في وجه من حاول أن يحفر في الجرح ليفتش عن الكبريت العربي أصر أن يسائل بيبي نتنياهو عن الأهم وعمّا قدّمه لأهل حيفا التي شهدت أحراشها، قبل بضعة سنوات، حريقا هائلا أودى بحياة العشرات من المواطنين، واليوم وبدل أن يجيب كرئيس حكومة على تساؤلات النازحين والمشردين من أهلها، أخذ يحرض هو وبعض وزرائه على المواطنين العرب في محاولة منه لابعاد الشبهات عنه في قضية الغواصات الألمانية وما شابها من شكوك وقرف، لكن جعفر أكد للملأ أن حكومات اليمين وعلى الرغم من مرور السنين لم تفعل شيئًا يحمي سكان المدينة من شر الحرائق وعنصرية الساسة وأكاذيبهم.
كانت أياما عصيبة. إسرائيل لم تحترق فيها. من أحرق "كراملها"، إذا كان هناك من تعمد احراقها، لا يعرف معنى الوطن ومن اغتبط وابتهج، وهو يشاهد ظلال النيران تلتهم خاصرتها وقلبها، لا يعي بأي واقع نعيش نحن العرب وما نواجهه من غطرسة ساستها الرُعناء المأزومين الذين لا ينامون قبل أن يطمئنوا على حرق خشبة من أخشاب تلك الجسور الضعيفة التي ما زالت عالقة بيننا وبين مؤسساتها ومواطنيها اليهود.
مشاركة فرقة الإطفاء الفلسطينية ووقفة القادة والنشطاء والمواطنين العرب شكلت مبادرات حيوية في وجه الناريْن: نار الطبيعة ونار العقول الفاسدة، والصرخات المدوية على الجبل كانت رسائل نضال مشترك عنيد وضرورات واقع مقلق، وشكلت دعائم لتلك الجسور المهترئة وردا حازما على كل من حرض وأشعل النيران ومواقد السم والعنصرية.
أكتب هذا وأكاد أسمع، قبل أن أنهي مقالتي، همهمة المعارضين وتأولات بعض المتهجمين على كل عربي ساعد وانتخى، فلجميع هؤلاء أقول: كفى بالتاريخ واعظا، ولجهّاله وما غفلوا النصيحة أن يراجعوا دروس النار من روما إلى برلين فبر مصر، وكيف استفاد الطغاة والحكام من السنتها وجيروها إلى أقراصهم.
وللعقال والغيورين راحة الضمير وعرق الجبين ولهم أن يعلنوا: "عرفنا ما الذي يجعل صوت القبّرة، خنجرا يلمع في وجه الغزاة، وعرفنا ما الذي يجعل صمت المقبرة، مهرجانا … وبساتين حياة".
إنه الكرمل، يا اختاه، صوت القبرة وصمت المقبرة.
جواد بولس
كاتب فلسطيني