يبحث الكل الفلسطيني عن المُصالحة بين حركتي فتح وحماس بما لهذه المُصالحة من أهمية لتحقيق الوحدة الوطنية الفلسطينية التي أسهم غيابها كثيراً في إضعاف الشعب الفلسطيني والحطّ من مكانة القضية الفلسطينية على الساحات العربية والعالمية والفلسطينية على وجه الخصوص. وعد الفتحاويون أن ما بعد مؤتمر الحركة لن يكون مثلما كان من قبل. أي أن أموراً كثيرة ستطرأ ومن شأنها أن تنعكس على واقع الإنسان الفلسطيني داخل فلسطين وخارجها. لقد وعدوا خيراً، والناس ينتظرون هذا الخير بفارغ الصبر.
خطوة مهمة اتّخذتها حركة حماس وتتمثّل بقبول الحركة دعوة فتح لحضور جلسة الافتتاح. لم تسمح حركة حماس لأعضاء حركة فتح مُغادرة قطاع غزّة إلى الضفّة الغربية لحضور المؤتمر السادس على الرغم من آراء كثيرة كانت دعت حماس إلى عدم عرقلة مرور هؤلاء الأعضاء، لكن الآن قرّرت حماس أن تحضر وتُلقي كلمة في المؤتمر. وقد ألقى الكلمة الشيخ أحمد الحاج علي نيابة عن خالد مشعل رئيس المكتب السياسي للحركة. الكلمة بحد ذاتها تُشكّل كسراً للجليد واستدراراً لروح الأخوّة بين قطاعات الشعب الفلسطيني، وقد انعكس أثرها على مداولات الناس في مجالسهم الخاصة. أما مضمونها فقد كان تصالحياً إلى درجة كبيرة، ولم يكن فيها ما يغمز أو يلمز علماً أن المؤتمر هو مؤتمر أهل أوسلو الذي ما زالت ترفضه الحركة وترفض الانخراط في مساربه. وكان لحضور حركة الجهاد الإسلامي أثر كبير أيضاً في نفوس الناس، على الرغم من أن الحركة خارج دائرة الانقسامات وليست معنية بالدخول فيها. وألقت الحركة كلمة ركّزت فيها على الوحدة الوطنية الفلسطينية التي من دونها لا يمكن أن يكون الشعب الفلسطيني قادراً على مواجهة الاحتلال وسياساته وإجراءاته القمعية.
حضور حركة حماس مؤتمر حركة فتح لا يعني أن الحركة باتت تقبل أوسلو وملحقاته، لكنه يعني ضرورة تليين القلوب من أجل التوصّل إلى اتفاقات فلسطينية يتم العمل على تنفيذها. ومثلما قامت حماس بهذه المُبادرة ينتظر الشعب من فتح أن تقدّم مُبادرة بالمقابل وهكذا حتى يتم التوصل إلى ما يُرضي الجميع. علماً أن الحركتين سبق أن وقّعتا اتفاقات في ما بينهما ومنّيتا الناس بالتفاؤل وقرب الفرج، لكن الحركتين أخفقتا في التنفيذ. لا شك أن هناك تدخلات خارجية تحول دون تنفيذ ما يتم الاتفاق عليه، لكن يبدو أن الإرادة الفلسطينية لم تكن حاضرة تماماً، فتبدّدت الاتفاقات.
وكان من شأن كل فصيل أن يلوم الفصيل الآخر على عدم التنفيذ. كانت كل حركة تقول إنها صادقة في نواياها وخطواتها لكن الطرف الآخر يعمل لصالح برامج لا تتمشّى مع المصلحة الوطنية الفلسطينية. وكنت أرى أن كل حركة تريد أن توصل رسالة إلى الشعب الفلسطيني بأنها حريصة على وحدة الصف الفلسطيني لكي تحافظ على تأييدها في الشارع الفلسطيني. وتقديري أن كلا الحركتين كانتا تعرقلان الحلول وتتعمّدان عدم التنفيذ لأن كل الاتفاقات التي حصلت لا تُلبّي طلبات كل حركة، وكانت تجد كل حركة صعوبة بقبول التنازلات المطلوبة منها.
حركة فتح وهي حزب السلطة لا تستطيع أن تتمرّد على اتفاق أوسلو ولو جزئياً لأن ذلك يعني المُغامرة بمستقبل الحركة لما في ذلك من إمساك عن تدفّق الأموال لها. وحماس لا تستطيع أن تقبل باتفاق أوسلو لأن ذلك يعني هزيمتها على الساحة الدولية ولدى حركة الإخوان المسلمين، ويعني تمرّد المقاومة على سياسيي الحركة. قبول اتفاق أوسلو مغامرة مُدمّرة لحماس، ورفض الاتفاق مُغامرة مُدمّرة لفتح. والسؤال المطروح دائماً على المُثقّفين والأكاديميين يتلخّص في إمكانية التوصّل إلى اتفاق يُجنّب الحركتين المُغامرة. حتى الآن صيغة من هذا القبيل لم تُطرح، ولم تطلب الحركتان من أحد تقديم صيغة تُنجي الطرفين. علما أن الحركتين لا تعتمدان على مؤتمرات أو لقاءات العصف الفكري الذي يمكن أن يتمخّض عن العديد من الأفكار والطروحات المُفيدة.
ظهرت استجابة من رئيس حركة فتح لكلمة حركة حماس، وهي أنه لم يتحدّث عن الانقلاب والانقلابيين في خطابه الذي ألقاه بتاريخ 30 تشرين الثاني 2016. في العادة، لم يكن عباس يوفّر من انتقاداته لحركة حماس ووصف الحمساويين بالانقلابيين، وقد امتنع هذه المرة. هل كان هذا الامتناع مُجرّد مُجاملة أم كان مُعبّراً عن توجّه جديد سيقود حركة فتح نحوه؟ هذا ما ستكشفه الأيام. لكن من ناحية أخرى تحدّث عباس عن ضرورة انعقاد المجلس الوطني الفلسطيني. وهذا ما قد يقوّض كل تفاؤل ذلك لأن المُلحّ الآن هو إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية بطريقة تُرضي الجميع فصائلياً وشخصيات اعتبارية. لقد تم الاتفاق منذ سنوات على إعادة بناء منظمة التحرير بحيث تشارك فيها حماس والجهاد الإسلامي، لكن قيادة منظمة التحرير لم تقم بأيّ جهد حتى الآن نحو تحقيق ذلك. فإذا كان للمجلس الوطني الذي هو غير شرعي وفق اللوائح المعمول بها فلسطينياً فإن في ذلك ما يُشكّل تحدّياً لكل الذين ينتظرون إعادة بناء المنظمة والمشاركة فيها.
وقبل انعقاد المؤتمر هناك حاجة فلسطينية لكتابة ميثاق وطني فلسطيني مُتناسِب مع ظروف الشعب الفلسطيني ومُعادلات الساحتين العربية والدولية. لا يعقل ألا يكون لشعب تحت الاحتلال ويعاني من التشريد ميثاق يُحدّد الأهداف والمبادئ والأسُس التي تحكم أوضاعه العامة، والأساليب والوسائل التي يتبعها نحو تحقيق الأهداف. وإذا لم يتوفّر هذا الميثاق فإن الشعب سيكون مُفتقراً إلى نصوص تُلزم الجميع ويُحاسب وفقها كل من يخلّ أو يعتدي أو يشذّ.
وهناك مشكلة أخرى لا بدّ من مُعالجتها إذا شاء الشعب الفلسطيني أن يسير نحو وحدة وطنية وهي وحدة حركة فتح نفسها. حركة فتح ليست الآن على قلب رجل واحد، وتعاني من نِزاعات داخلية ومُنافسات بين مختلف التيّارات ومراكز القوى. ومثلما يريد العالم أن يتكلّم مع الشعب الفلسطيني ككتلة واحدة، تريد الفصائل الفلسطينية أن تتكلّم مع حركة فتح ككتلة واحدة. هناك مستاؤون من قيادة الحركة وهناك مفصولون، الخ، وهذا يُنذر بما هو أسوأ في العلاقات الداخلية للحركة. فهل تعمل القيادة الجديدة المُتمثّلة باللجنة المركزية للحركة على توحيد الصفوف ولَمّ الشمل؟
تقديري أن الخطوات التي تمّت حتى الآن نحو تحقيق مُصالحة ومن ثم وحدة وطنية جيّدة لكنها ليست كافية. ما زالت البرامج الفصائلية على الساحة مُتناقِضة بصورة حادّة ومن الصعب التوفيق بينها. وهناك من كل الأطراف مَن يستثمر في الشِقاق والاقتتال، وله مصالح في تدهور الأوضاع الداخلية. فهل هؤلاء سيُعرقلون التوجّه نحو ما هو أفضل للشعب؟ نعم، سيفعلون ذلك.
د. عبد الستار قاسم، أكاديمي ومفكر فلسطيني