كلام كبير وخطير الذي أدلى به وزير الخارجية الأميركية جون كيري يوم الأحد الماضي خلال كلمته أمام منتدى لمركز معهد بروكينغز الأميركي الشهير، كيري لا يزال في موقع المسؤولية وكلامه ينطوي على شهادة رسمية، حتى لو كان الأمر يتعلق بإدارةٍ تنتهي ولايتها بعد أكثر من شهر بقليل.
الكلام من موقع المسؤولية يختلف عن الكلام من خارجها، فما يحصل مع الرئيس الأميركي السابق جيمي كارتر الذي يؤيد ويدعو إلى إقامة دولة فلسطينية على الأراضي المحتلة العام 67، ولم يكن يفعل ذلك يختلف عن كلام كيري.
كارتر يعبر عن موقف شخصي لشخصية اعتبارية مهمة بالتأكيد ومثله يفعل العديد من المسؤولين الأميركيين الكبار سواء أكانوا أمنيين وعسكريين وسياسيين، لم يكن حديث كيري في سياق الرد على دعوة رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو الذي عاد ليتحدث عن دعمه لتسوية إقليمية.
التسوية الإقليمية التي يتحدث عنها نتنياهو مرفوضة تماماً من الكل الفلسطيني، لأنها تعني كما يقول نبيل أبو ردينة الناطق باسم الرئاسة الفلسطينية، محاولة لفرض شروط جديدة بهدف قلب المبادرة العربية للسلام.
على أن المسألة بالنسبة لنتنياهو لا تتعلق وحسب بالبحث عن مهرب من عملية سلام حقيقية، ولمواصلة السياسة الحالية التي تقوض حل الدولتين، أو للهروب من الجهود الدولية الرامية لإنقاذ العملية السياسية، ذلك أن إسرائيل تهدف إلى تطبيع علاقاتها مع العرب دون أن يؤدي ذلك إلى تلبية استحقاق عملية سياسية ناجحة تنطلق من قرارات الأمم المتحدة.
عن ذلك يقول كيري إنه يرفض فكرة أن دولاً عربية أخرى يمكن أن توقع اتفاقات سلام مع إسرائيل دون تحرك باتجاه اتفاق مع الفلسطينيين، يجزم كيري بأنه لن يكون هناك تقدم وسلام مع العالم العربي دون العملية السياسية والسلام مع الفلسطينيين.
وكأنه يقدم شهادة أو رؤية تقييمية شاملة لسياسة الحكومة الإسرائيلية، يقول كيري، إن أكثر من 50% من وزراء الحكومة الإسرائيلية الحالية أعربوا علناً عن معارضتهم لقيام دولة فلسطينية، وقالوا إنه لن تكون هناك دولة فلسطينية، الأمر الذي يشكّل لكيري مصدر قلق شديدا.
كيري يعتبر أن مواصلة الاستيطان على أرض فلسطينية سياسة متعمدة ولا يقبل الادعاء بأنها لا تشكل عقبة أمام عملية السلام، ويستشهد بموقف اليسار الإسرائيلي بهذا الخصوص، أما الخلاصة الخطيرة التي يقدمها جون كيري فهي أن حكومة اليمين الإسرائيلي لا تريد سلاماً مع الفلسطينيين، وأن اليمين يؤمن بإسرائيل الكبرى ولأجل ذلك يريدون عرقلة عملية السلام، وأن تعود ملكية مستوطنات الضفة الغربية إلى إسرائيل.
وربما لا يقصد كيري أن يعود بخطر الاستيطان إلى أصل قيام الدولة الإسرائيلية، لكنه يقول إن ذلك هو تاريخ الاستيطان والمستوطنين، وهذه خلاصة أخرى وشهادة أخرى تذهب إلى عمق المشروع الصهيوني من أساسه.
لم أسمع ولم أقرأ شهادةً وتقييماً لسياسة الدولة الإسرائيلية بهذا الموضوع وهذه الصراحة من أي مسؤول أميركي سابق أو حالي وهي شهادة وتقييم ذات أبعاد شمولية استراتيجية لا يمكن تجاهلها أو التقليل من أهميتها عند وضع استراتيجيات ورسم السياسات، خاصةً من قبل الفلسطينيين والعرب.
كيري كان قبل فترة قصيرة يتباهى بأنه من بين المسؤولين الأكثر دعماً وتعاطفاً مع الدولة العبرية، وخلال وجوده على رأس الخارجية الأميركية حظيت إسرائيل بدعم غير مسبوق، آخره كان رفع المساعدة السنوية لإسرائيل من 3 مليارات من الدولارات إلى 3.8 مليار دولار.
رئيسه باراك أوباما يعبر عن تعاطفه مع الرواية الإسرائيلية حين يدعو حفيدة شمعون بيريس لإضاءة شمعة في البيت الأبيض بمناسبة إحياء ذكرى الهيكل، إزاء ذلك من غير المتوقع أن تتخذ الإدارة الحالية خلال ما تبقى لها من عمر أية قرارات أو خطوات تنسجم مع التقييم والشهادات التي أدلى بها وزير الخارجية.
إذا كانت هذه هي رؤية إدارة أميركية ورثت وتبنت فكرة الدولتين حتى عبر عنها الرئيس أوباما بأفق فكري ثقافي تاريخي من على منبر جامعة القاهرة، فهل نتوقع أن يكون زمن ترامب المقبل أفضل أو مختلفاً؟
إدارة أوباما استهلت نشاطها بدفع عملية السلام بمطالبة إسرائيل وقف كل أشكال التوسع الاستيطاني بما في ذلك لأسباب طبيعية، وأرسلت لهذا الغرض السيناتور المخضرم جورج ميتشل، لكنه أدرك مدى صعوبة المهمة وأدرك مدى عجز أو عدم جدية الإدارة التي كلفته المهمة فانسحب منها سريعاً.
والآن هل نستمر في لوم الولايات المتحدة أو الدول الغربية واتهامها بممارسة سياسة الكيل بمكيالين، وهل تنفع كل عملية الشجب والاستنكار لدور المجتمع الدولي الذي يتواطأ أو يغطي أو يقدم الدعم لحكومة اليمين المتطرف في إسرائيل؟
جيد أن تصدر مثل هذه الشهادات عن مسؤولين دوليين في مواقع المسؤولية، خصوصاً في الدولة الضامنة لإسرائيل وأمنها وتفوقها، لكن الفلسطينيين لن يكونوا بحاجة إلى مثل هذه التصريحات حتى يستخلصوا ما استخلصه وأن يبنوا عليها استراتيجياتهم وخطواتهم المقبلة، ذلك أنهم أكثر وخير من يعرف جوهر وأهداف السياسة الإسرائيلية، وما المتوقع من حكومة تغرق أكثر فأكثر نحو العنصرية والرغبة في التوسع وتصعيد نشاطاتها العدوانية.
في هذا السياق، ربما علينا أن ننظر للبرنامج السياسي الذي أقره المؤتمر الوطني السابع لحركة فتح، الذي انتهت للتو أعماله، هل يصلح مثل هذا البرنامج لمواجهة مرحلة جديدة تنطوي على تحديات تاريخية واستراتيجية صعبة كالتي يشير إليها جون كيري؟
نفهم أن المؤتمرات الوطنية للأحزاب والفصائل تجري مراجعات وتضع استراتيجيات وخيارات أساسية، أما التكتيك فيبقى من صلاحية ومهمة القيادات، إذا شئنا الصراحة فإن المخرجات السياسية للمؤتمر السابع تنتمي إلى التكتيك السياسي الذي يقوم على فكرة سحب الذرائع والعمل فقط على جبهة المجتمع الدولي من خلال وسائل العمل الدبلوماسي والسياسي والقانوني.
إذا كانت المخرجات السياسية للمؤتمر هي التكرار لبرنامج سياسي سابق وخيارات سابقة لمرحلة صعبة من العلاقات الفلسطينية الداخلية، ومن الخلاف السياسي، وفشل الخيارات، فهل يصلح مثل هذا البرنامج لإعادة بناء الوضع الفلسطيني بما يتجاوز الحال الراهن؟.
طلال عوكل
2016-12-08