بات الحصار على غزة قصة مستهلكة، ورقة يتم اللعب بها هنا وهناك من أجل مكاسب سياسية. ما تبثه الصور تفيد بإغلاق كافة المعابر التجارية باستثناء معبر كرم أبو سالم. لكن بالنظر إلى حركة الواردات، وتقييم وجود جميع أصناف السلع المطلوبة نجد أنها موجودة وبكميات تزيد عن حاجة المواطن، وأن السوق لا يعاني أي نقص أو شح في أي سلعة من السلع المطلوبة، في حين أنه يتلون بصنوف وأنواع الماركات التجارية المستوردة في مختلف السلع تقريباً، فيتضح أن غزة تحت الإغلاق الجزئي وليس الكلي والكامل.
إن لم تكن الأصناف في الأسواق تتوفر بالطرق الشرعية وعبر المعابر الرسمية، فإن نشاط اقتصاد الأنفاق يسد العجز والفراغات التي تسببها المعابر وسياسات التوريد إلى غزة من ناحية، أو الإغلاقات المتقطعة. فتجارة الأنفاق البديلة التي لجأ الغزيون وتم استخدامها كمعابر تجارية أو ما يسمى بالاقتصاد الخفي أو الاقتصاد الموازي بدواعي تخفيف تداعيات الأزمة الاقتصادية التي يمر بها الغزيون، والذي حيثمـا كان، ومهما كان حجمه وشكله، فإنه يمثل اقتصاداً قذراً وخطراً يهـدد التوسـع الاقتصادي، لاسـيما من خلال التجارة غير القانونية وتدهور الإنتـاج، وفقـدان المـوارد الجبائيـة. وبتعبير آخر؛ فإن هذا النوع من الاقتصاد يؤدي إلى الاختلال بميكانيكية الأسعار، واستنزاف مخيف للاقتصاد الوطني، وموارد المستهلك، واهدار رؤوس أموال ضخمة ومستثمرة في السلع الأصلية، وتهديدها بالإغلاق أو تخفيض عدد العاملين لديها مما يهدد بإرتفاع نسب الفقر والبطالة في المجتمع، فضلاً عن تأثر بيئة الاستثمار ورؤوس الأموال المحلية.
على الرغم من الأضرار الكبيرة التي يخلفها الاقتصاد الموازي أو الاقتصاد الأسود هو توفر السلع بسعر في متناول المستهلكين حيث يلبي احتياجاتهم في ظل ضعف القدرات الشرائية لدى شريحة كبيرة من الأسر الفلسطينية لا سيما المعتمدة على رواتب حكومة غزة وكذلك الأسر التي يعاني أبنائها من البطالة وعدم توفر مصدر دخل لديهم. وقد تصل مساهمة "الاقتصاد الخفي" في إجمالي الناتج المحلي الفلسطيني ما قيمة عدة مئات من ملايين الدولارات. من يرى الصورة بإطارها العام وبعد عشر سنوات يرى أن إسرائيل تعترف بحماس طرفاً معها ولكن من أجل مصلحتها هي. فإسرائيل لا تمانع في إدخال أي من المنتجات والسلع والمواد إلا ما يرد ذكره في قائمة الممنوعات التي لربما تدخل في صناعات محرمة من وجهة نظرها كالصواريخ والمواد المتفجرة.
إن حركة الواردات ما بين معبر كرم أبو سالم التجاري والأنفاق يغرق سوق غزة بالمنتجات والسلع الإستهلاكية بمختلف صنوفها وأنواعها. لا يخفى على أحد القطيعة الكاملة بين حماس وإسرائيل والعجيب كيف تسمح كل منهما لحركة التجارة بينما لا شك في صورة واردات إلى غزة. أي حصار هذا والسوق يغرق بالمنتجات الإسرائيلية؟ لكن كلا الطرفين مستفيد اقتصادياً. تستفيد حكومة غزة التابعة لحماس من التحصيل الضريبي الحكومي على الشاحنات الواردة إلى قطاع غزة، فضلاً عن التحصيل الضريبي لبضائع الاقتصاد الخفي "الأنفاق"، من أجل سد العجز المالي الذي تعانيه وزارة المالية، خصوصاً حيال قدرتها على دفع النفقات التشغيلية الحكومية.
في حين تهزأ إسرائيل بجميع التقارير الاقتصادية التي تفيد بأن غزة تحت الحصار في حين أن سوق غزة يعتبر مكباً لنفايات البضائع الإسرائيلية والوكالات الأجنبية المستوردة غير المرغوبة في السوق الإسرائيلي، فسحب التقارير الصادرة عن الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني يتبين أن غزة تسورد 65% من وارداتها من إسرائيل، ويبلغ حجم التبادل الاقتصادي مع إسرائيل أكثر من 380 مليون دولاراً أي ما يعادل 1.4 مليار شيكل تقريباً سنوياً، وهو ما يعتبر مهولاً جداً اذا ما قارناه بحصار حقيقي يمكن أن يكون مفروضاً.
إسرائيل لا تسمح بتوريد البضائع إلى غزة إلا من أجل مصلحة اقتصادها بالدرجة الأولى، في حين يعتبر سوق غزة إستهلاكياً كبيراً للمنتجات الإسرائيلية، وسوقاً مربحة وعائدات مادية كبيرة جداً يدفع بإسرائيل إلى الاستثمار بسوق غزة وخاصةً أن الأرباح المادية هي مقتصرة فقط على إسرائيل. في المقابل كانت إسرائيل أذكى من حماس حين أعلنت سيطرتها على غزة عام 2007 حيث أوقفت جميع الصادرات الفلسطينية إلى إسرائيل على الرغم من مطالبة التجار الإسرائيليين حكومتهم بإدخال المنتجات الفلسطينية إلى الأسواق الإسرائيلية وخاصة الأثاث والملابس والمنتجات الزراعية حيث تكلفة إنتاجها أقل، ويتم تصديرها إلى دول الخارج ومنها دول شرق أوروبا وقد كتب عليها "صنع في إسرائيل"!
من جانب أخر؛ تلبي البضائع الإسرائيلية السوق الغزي ظاهرياً، لكنها في الباطن لا تحترم المواطن. فكثير من السلع الإسرائيلية التي ترد الى غزة يكون السوق الإسرائيلي نفسه ليس بحاجة إليها. والسؤال كيف يمكن لسوق اسرائيل أن تصنع او تستورد من الخارج ما هي ليست بحاجة اليه؟ الجواب يكمن في طبيعة قانون الوكالات التجارية. فمثلا يستورد التاجر الاسرائيلي الصنف بعدة أنواع. فتجبر الشركة المصنعة الطرف المستورد على شراء جميع الأنواع المنتجة أو إلغاء الوكالة. فيقوم الطرف الإسرائيلي بالتخلص من فائض البضائع غير المرغوب في غزة بسعر أقل من الوكيل الفلسطيني.
إن الحصار هو تشديد فقط على حركة الصادرات الفلسطينية فقط التي لا شك هي بالأساس مرتكز على زيادة النشاط الصناعي داخل المصانع والمعامل والورش المحلية في غزة. وتتكاثف تداعيات هذا الأمر في صورة تشغيل جزئي لهذه المصانع والورش، وبأيدي عاملة محدودة، الأمر الذي يفرض معدلات بطالة عالية في داخل المجتمع الفلسطيني بين صفوف الشباب والخريجين تشير التقارير الرسمية للصادرة عن البنك الدولي أنها الأعلى في العالم حيث تجاوزت نسبتها 60%.
تحاول حكومة غزة أن تتخذ قرارات تساهم في حل مشاكل اقتصادية أهمها توفر السلع بأسعار تناسب المستهلك الفلسطيني في ظل هذا التدهور الكبير في القدرة الشرائية، فمثلاً ألغت مؤخراً جميع الوكالات التجارية وتفتح باب الاستيراد أمام الجميع. لكن هل هدف مثل هذه القرارات هو محاربة شجع التجار ومحاربة احتكار السلع بأسعار مرتفعة؟! لا أعتقد هذا. إنما لغاية في نفس يعقوب لا تخفى على الكثيرين.
بعد حرب 2014؛ لم يحظَ اقتصاد غزة بأي اندفاعات إيجابية من شأنها أن تؤثر على الحياة المعيشية لسكانه، بل تراجع بشكل غير مسبوق وفاقم معاناتهم، والأسباب انهيار المنظومة الاقتصادية غير واضحة المعالم. إن صورة الاقتصاد الفلسطيني من سيء إلى أسوء وتضعنا أمام ضرورة العمل على فهم واضح لخيوط اللعبة واستقرار الحالة السياسية وترتيب البيت الفلسطيني وتوحيد القيادة الفلسطينية بما يُفضي إلى توحيد المؤسسات الرسمية المختصة من إعداد الخطط التنموية والاستراتيجية التي من شأنها أن تُحقق تعافي الاقتصاد الفلسطيني، ومن ثَّمَ حماية ورفعته.
بقلم: أ. سلوى محمد ساق الله