منعتني مشاعر جياشة ومقلتان لا تملكان كبح جماح تدفق الدموع حنينا واشتياقا من الكتابة عن الجزائر فترات طويلة، فالكتابة عن الجزائر تخرج من شغاف القلب والوجدان، وتختلط الكلمات بالعَبَرات، الكتابة عن شيء تحبه أشبه بالسير على خيط مشدود، أو الخوف من أن لا تفِ عظيم الكلمات بصورة الجزائر الشفافة الجميلة النقية في تصوري وخيالي وعقلي، وخاصة لشاب عاش و تعلم في الجزائر وأصبح كل جزائري صاحب فضل عليه، شعبا وحكومة ونظاما، وطبيعة خلابة، وطيبة في أهلها أصبحت عملة نادرة بين الأمم. إن الشعور بالوفاء والامتنان يحرج الكلمات ويجعل مهمتها صعبة للغاية، ويضعها في ميزان الذهب.
الجزائر تمنح وتهب وتهدي بدون مقابل. وبدن شروط للفلسطينيين.. الجزائر لا تعاقب المخطئين من الفلسطينيين، بل تمنحهم ألف فرصة، عندما يريد جزائري أن ينصح أو يعاقب فلسطيني مخطئ يقول له " يا رجل.. أنت فلسطيني" "هل نسيت"؟ أي أنت غالي وشبه مقدس، ومثل أعلى.. فلا تكن في صف المخطئين. هكذا، بكل محبة وصفاء نية وطيبة. هكذا صورة فلسطين التي قدمت لوحات نضالية ناصحة ومشرفة يحسن تقديرها الجزائري صاحب التجربة الطويلة والقاسية في تاريخ الصراع مع فرنسا، والتي أدت إلى نيل الجزائر استقلالها المشرف، وحق لكل جزائري أن يعتز بهذا التاريخ المجيد، وكان حق للشاعر الجزائري مفدي زكريا أن يسطر أروع ملحمة شعرية وطنية أصبحت النشيد الوطني الجزائري "قسماً" والتي كانت شاهدة على تلك الفترة البطولية.
الجزائر لم تستعمل القضية الفلسطينية كورقة وكأداة، إنها تشعر بعظيم مسئوليتها الحقيقية تجاه القضايا العربية، وتعرف بأنها قد تدفع الثمن مثلما دفعه الشهيد صدام حسين عندما دعم الفلسطينيين، ولكنها لم تكن تبالي بالأخطار، ولا تقيم لهذه الحسابات أي اعتبار.
لا يغيب عن بالكم عظمة الدور الذي يؤديه الجزائري المقيم في فرنسا وفي اسبانيا وفي ايطاليا وفي أمريكا وكندا وجميع دول الغرب، فهو يدعم أكثر من الفلسطيني نفسه النشاطات والفعاليات الفلسطينية، ويساهم الجزائري ضمن عمله في المؤسسات الدولية والحقوقية في تعزيز القضية الفلسطينية ودعمها ورفع لوائها ورفع الظلم عنها وتوضيح وتفنيد المزاعم الإسرائيلية المغلوطة الكاذبة. فالجاليات الجزائرية ومن خلفها التونسية والمغربية والموريتانية والعديد من الشعوب الحرة تتنافس لدعم القضية الفلسطينية وأبناء فلسطين، والجزائري عندما يخرج لا ينسلخ عن جلدته الأصلية ولا ينصهر في ثقافات أخرى، بل يستفيد ويراكم خبراته ليصبح قوة إضافية وصاحب همة وطاقة كبيرة يساعد جميع أبناء أمته العربية والإسلامية، ويمتد خيره إلى خارج نطاق جغرافيته. فــ رشيد نكاز الذي هب ليساعد أبناء ونساء قومه في مواجهة العنصرية الغربية، يوجد مثله الكثير، فهذا الطبع الكريم الشجاع سمة واضحة، وسمت أساسي في المركب السيكولوجي الجزائري.
ورغم أن الشعوب لا تنتظر فرماناً من نظامها السياسي لكي تحب الشعوب الأخرى، إلا أن المفارقة الرائعة هي اتفاق الجزائريين (نظاما وشعبا) على حب فلسطين، والتي لها مكانة تتسع يوما بعد يوم، و تفوق البقعة الجغرافية المحصور فيها الشعب الفلسطيني، والذي يتميز بأنه صاحب قضية، ورأس الحربة في معركة تحرير الأقصى وفلسطين، المسجد الأقصى والذي هو أقصى جميع الأمة الإسلامية، وهذا ما يدركه تماما الإنسان الجزائري.
إن العلاقات الجزائرية الفلسطينية يجب أن تكون نموذجا للجميع، فوالذي رفع السماء بلا عمد، انه تطبيق سليم للحديث الشريف القائل، " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"، فهل شهد التاريخ أن فريق كرة قدم يتمنى أن ينتصر عليه خصمه ؟ انه الفريق الجزائري الذي أسال دمع الفرح، وعلمنا درسا خالدا فينا، و أهدى الشعب الفلسطيني "خسارته في المباراة" حبا واحتراما وتقديرا وتشجيعا. لله درك يا جزائر، لله دركم يا أحبة في الجزائر رجال ونساء، أطفال وشيوخ.
إنها الجزائر، التي وقفت كالطود الشامخ وحدها وبمفردها تقاوم وتقاتل "العشرية السوداء"، هي الجزائر التي عرفت كيف تظل شامخة وتتصدى لأعدائها وللمؤامرات الخارجية.
وختاما، يتوجب على أي فلسطيني أن يُعمل عقله للوصول لنقطة هامة تتمثل في كيف يمكن أن نشهد مثل هذه العلاقات مع دول وشعوب أخرى؟ كيف يمكن تعميم النموذج الجزائري؟
هذه الأمنية قد تتحقق ولكن بعد أن ننهي انقسامنا، ونصبح كفلسطينيين شعبا واحدا مرة أخرى، بدون انقسامات وبدون مناكفات، متجاوزين هذا المشهد العبثي القاتل في الوقت الذي لا نملك فيه ترف الخلاف والاختلاف. فنحن نرمى عن قوس واحدة وعين المؤامرات تتربص بنا. فهلا التقطنا الفرصة.؟ اخبرنا يا جزائري. انصحنا كيف نخرج من عثرتنا.. لعلهم يسمعون منك، فاغلب الظن أن صوت الفلسطيني أصبح كصرخة في واد سحيق، لا يحصل فيها إلا على رجع صداه.
عاشت الجزائر حرة كريمة.
بقلم/ فهمي شراب