(الوسيلة والغاية)
إن إستشعار الخطر الداهم على مدينة القدس خاصة وفلسطين عامة، لم يكن وليد الساعة، هو منذ أن بدأت الهجمة الصهيونية على فلسطين، مع بداية الإحتلال البريطاني لفلسطين عام 1918م، حيث مثلت مدينة القدس ومقدساتها الإسلامية والمسيحية على السواء هدفاً لحركة الإستيطان الصهيوني، وتواطؤ الإحتلال البريطاني حينذاك مع الحركة الصهيونية في عملية الإستهداف هاته، وسهل سبل الهجرة إلى فلسطين عامة وإلى القدس خاصة، وقد تمكنت العصابات الصهيونية من إحتلال الجزء الغربي من مدينة القدس عام 1948م والتي كانت تضم أكثر من 3600 منزل من منازل العرب الفلسطينيين من مسلمين ومسيحيين، والذين جرى تهجيرهم، وقد أكملت دولة الكيان الصهيوني إحتلالها لفلسطين وللقدس الشرقية التي تضم المقدسات الإسلامية والمسيحية وفي مقدمتها المسجد الأقصى وكنيسة القيامة، ووضعت سياساتها وخططها البلدية والحكومية لتهويد القدس وطمس معالمها التاريخية والجغرافية والسكانية تمهيداً لتهويدها وضمها وتحويلها عاصمة للكيان الصهيوني، مستخدمة لهذه الغاية مختلف الأساليب الغير قانونية، والتي يعارضها القانون الدولي، وقرارات الأمم المتحدة التي تؤكد على أن القدس الشرقية جزء لا يتجزأ من الأراضي المحتلة عام 1967م وينطبق عليها ما ينطق على بقية الأراضي المحتلة في حرب العام 1967م، وأن جميع هذه الإجراءات والسياسات والخطط التي تستهدف القدس إجراءات وسياسات باطلة، ولكن هذا وحده لا يكفي للحفاظ على عروبة القدس وإسلاميتها ومسيحيتها، فقد تقلص الوجود المسيحي في مدينة القدس تقلصاً كبيراً لدرجة بات معه عدد المسيحيين القاطنين في القدس لا يتجاوز بضعة آلاف، حيث جرى تسهيل إجراءات التهجير لسكانها المسيحيين، كما جرى تهجير عشرات الآلاف من سكانها المسلمين إلى خارج حدود بلدية القدس، لإفساح المجال أمام حركة الإستيطان اليهودي للمدينة المقدسة وتغيير التركيب الديمغرافي لها، والذي يعد العامل الأساسي في عملية التهويد والسيطرة والضم لمدينة القدس.
هذا التحدي الخطير للوجود العربي في مدينة القدس ينذر بخطر بالغ، يقتضي من جميع العرب مسلمين ومسيحيين التنبه إليه وإستشعاره ومواجهته بمختلف الطرق والأساليب المتاحة التي من شأنها الحفاظ على الطابع العربي لهذه المدينة والحيلولة دون نجاح خطط الإحتلال الصهيوني التي تستهدفها، وكان من بين الأساليب والوسائل التي يبتدعها الفلسطينيون للحفاظ على طابع مدينتهم المقدسة وعاصمة دولتهم الأبدية دعم المؤسسات العربية الفلسطينية من مستشفيات، ومدارس، ووقفيات، والحيلولة دون تسرب أراضي وعقارات القدس إلى يد المستوطنين، والتغلب على الإجراءات والسياسات العنصرية التي يمارسها الإحتلال الإسرائيلي والتي تستهدف تفريغ القدس من سكانها العرب، فكانت مبادرة تأسيس صندوق ((وقفية صندوق القدس)) من قبل رجل الأعمال الفلسطيني منيب المصري وإستجابة عدد من رجال الأعمال والشخصيات الفكرية والثقافية الفلسطينية والعربية لتأسيس ((صندوق وقفية القدس)) بهدف دعم المؤسسات المقدسية العربية وحماية ودعم الوجود السكاني العربي في مدينة القدس، وحماية عقاراتها من منازل وأراضي عبر تحويلها إلى أوقاف إسلامية خوفاً من تسربها إلى أيدي المستوطنين تحت ضغط الضائقة الإقتصادية التي يتعرض إليها المقدسيون، ويأتي هذا العمل النبيل متوافقاً مع سياسات م.ت.ف والسلطة الوطنية الفلسطينية، وكذلك الجهود العربية والإسلامية لحماية القدس والحفاظ على عروبتها، فالصراع على القدس يحتدم يوماً بعد يوم، لما تمثله القدس من عنوان فلسطيني وعربي وإسلامي، ولما تمثله تجاه فلسطين، فمن يربح معركة القدس يربح معركة فلسطين، ومن يخسرها يخسر فلسطين.
ولا يخفى على أحد أهمية القدس وأهمية مقدساتها، والتي تستوجب الدفاع عنها بمختلف الأساليب والوسائل وفي مقدمتها دعم صمود المقدسيين بشتى الوسائل لأن من يعطي المقدس قيمته هو الإنسان الذي يقيم فيه ويعمره، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت المقدس: ( إئتوه فصلوا فيه، فإن لم تصلوا فيه، فابعثوا بزيت يسرج في قناديله) يستفاد من الحديث بأنه يجب المحافظة عليه في كل الظروف والأحوال على مختلف العصور والأزمان، وهناك الأحاديث الكثيرة التي تبين أهمية المسجد الأقصى وفضل الصلاة فيه، وقد ربط القرآن الكريم إرتباطاً وثيقاً بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى بقوله تعالى: (سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير)، كما ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين ولعدوهم قاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا ما أصابهم من لأواء حتى يأتيهم نصر الله قالوا أين يا رسول الله فقال: في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس).. من هنا يظهر لنا مكانة القدس ومقدساتها وأهميتها وضرورة الحفاظ عليها ومساندة أهلنا المقدسيين خاصة والفلسطينيين عامة المرابطين في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، وإحدى وسائل هذه المساندة وهذا الدعم هو وقفية صندوق القدس ودعمه حتى يؤدي رسالته في دعم صمود القدس والمقدسيين ومواجهة خطط التهويد والضم التي يسعى إليها الكيان الصهيوني، وفي هذا السياق ليس مفاجئاً لي أن يقوم وفد كبير من مجلس إدارة صندوق وقفية القدس بزيارة للرياض عاصمة السعودية في الفترة من 20 إلى 22 من هذا الشهر كانون الثاني ويلتقي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز الذي يحمل هم العرب والمسلمين وفي مقدمتهم فلسطين ودرتها القدس، والذي واكب هذه القضية ولم يبخل عليها بدعمه المادي والمعنوي منذ أيام شبابه الأولى، وهذه أول زيارة خارجية لمجلس إدارة وقفية صندوق القدس لطرح أفكاره وخططه لحماية القدس ودعم المقدسيين وإني على ثقة أنه سيجد كل الدعم والتأييد رسمياً وشعبياً في المملكة العربية السعودية، كما أن توجهه إلى بقية الدول العربية والإسلامية وكذلك الدول الصديقة سوف يجد الإستجابة الملائمة لعدالة القضية الفلسطينية عامة وقضية القدس خاصة.
بقلم/ د. عبد الرحيم جاموس