بعد أيام تدخل نكبة فلسطين سنتها المئوية (الأولى)، مثقلة بأعباء الهزائم، وببركات عشرات آلاف الشهداء والضحايا، وبالوعود التي لا تزال تجد ورقاً، وحبراً وأثيراً، للأصوات المتواصلة في صرخة مشتركة مدويّة منذ ذلك اليوم المشؤوم الذي صدر فيه "وعد بلفور" للصهيونية العالمية بمنحها "وطناً" على أرض فلسطين.
هكذا بدأت نكبة القرن العشرين بوعد ممـــن لا يملك لمن ليس له حق، ثم من بعده القـرار الأممي (1947) بتقسيم فلسطـــين وإنشاء "دولة إسرائيل"، وبعــــدها حرب 1948 فاتحة حروب 1956 – 1967 -1971، وصولاً إلى حرب الهمج والشر والكفر، والإرهاب والموت، والدمار والشتات، وهي البادئة منذ العام 201، والمستمرة إلى ما لا تاريخ محدداً.
على هامش هذا الركام المرعب، المفتوح على فضاء مشحون بالظلام، انعقد المؤتمر السابع لحركة "فتح" قاعدة منظمة التحرير الفلسطينية على أرض "رام الله" المحاصرة، وبحضور "حركة حماس" على سبيل المجاملة.
تلك هي حال فلسطين (الأم) وأولادها المبعثرين في أرجاء العالم منذ ثمانية عقود، على أمل بالعودة، وإن من دون أدنى الضمانات. فماذا عن الباقين الصامدين على أرض فلسطين التي يتحسّسونها كبساط يُسحب من تحت أقدامهم؟ ما بقي من فلسطين، حتى الأمس القريب، لا يتعدى نسبة 22 في المئة من مساحتها. وهذه المساحة المتبقية مهددة، وهي عرضة للسلب والنهب بإحكام مشروع استيطاني يقوده بنيامين نتانياهو، ويقوم على خلق أمر واقع على الأرض التي تباح لتشييد مجمّعات سكنية تنبت بين ليلة وضحاها.
وفيما تتراكم الدعاوى الفلسطينية أمام "محكمة العدل العليا"، يتدخل وزير الدفاع الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان ليدعو إلى تجميد الاستيطان خارج المجمعّات الاستيطانية الكبرى مقابل اعتراف الولايات المتحدة الأميركية بـ "شرعية" تلك المجمعات المشيّدة بالقوة على أراضي الفلسطينيين. وتأتي فكرة ليبرمان هذه في الوقت القصير الفاصل عن موعد انعقاد محكمة العدل العليا (وهي محكمة إسرائيلية) مدعوة للنظر في المجزرة العمرانية. ما هو واضح حالياً أن عصابة نتانياهو – ليبرمان تملك مجموعة خيارات لإبقاء المستوطنين الإسرائيليين في تلك المجمعات، ومن تلك الخيارات اعتبار هؤلاء المحتلين يسكنون في مناطق نزاع مسلّح بانتظار حسم مصيرهم. وثمّة خيار آخر هو نقل أولئك المستوطنين إلى أراضٍ مجاورة مصنّفة ضمن "أملاك الغائبين". وهؤلاء "الغائبون – المغيبون" هم الفلسطينيون أصحاب الأرض الشرعيون.
نكبة الأرض هذه هي أساس قضية فلسطين، الكيان والشعب والوجود، الحاضر والمستقبل والمصير، وقد وحّدت الرأي العام العربي، والعالم الإنساني، لكنّها لم توحّد "المقاطعة" و "القطاع" بين دولتي رام الله وغزة، وبين محمود عباس وعباس هنية، فكان أن عاد كل قطيع إلى ربعه، محتمياً بمتراسه المكشوف، ومترسملاً بخطابه المكرر، الموجّه إلى الرأي العام العربي والعالمي، وهو بالكاد يُسمع في "المقاطعة" و "القطاع".
كانت "حركة حماس" قد خاضت منفردة حرباً مع إسرائيل دامت نحو شهرين بين تموز (يوليو) وآب (أغسطس) 2014. وقد صمدت غزة القرار، والخطاب، لكن غزة، البيوت، والأرزاق، والمؤسسات، تصدّعت، لأنها قاتلت وحدها، منفردة ومستفردة، وها هي، بعد سنتين، لا تزال تلملم جراحها وتحصي شهداءها، وتنتظر مواعيد استحقاق تعويضات إنسانية من مؤسسات إغاثة إقليمية ودولية.
ولئن كانت حرب "غزة" ملحمة بالبطولة والصمود والشهادة، فإنها في الحساب الفلسطيني الخاص والعام، كانت كارثة على كل الفلسطينيين، المقيمين المحاصرين، والمنتشرين في أقطار الشتات. وحتى اليوم لا يزال السؤال الفلسطيني والعربي عموماً يتردّد بالصوت العالي عابراً القارات: إذا كان من الصعب حتى شبه المستحيل أن تتحد "دولة حماس" مع "دولة رام الله" فكيف يراهن العرب، ومن بقي من دول العالم معهم، على "حل الدولتين" بين الفلسطينيين والإسرائيليين؟
ربما كان الخطأ الأول في أساس دولة "السلطة" الفلسطينية التي قامت في رام الله على يد القائد الطيب الذكر الشهيد ياسر عرفات بعد اتفاق أوسلو. فقد كان "أبو عمار" يراهن على مساحة متر مربع واحد في الأرض المحتلة ليرفع فوقه علم فلسطين ويبني تحته دولته "النموذج"، وهو قد حقق حلم حياته برفع علم فلسطين على ذلك المبنى المتواضع في "رام الله" حيث قامت دولته المؤلفة من قاعة اجتماعات لقادة منظمة التحرير المتواجدين على أرض الوطن، وقاعة استقبال، وغرفة مؤونة، وغرفة مكتب، وغرفة نوم، وملحق إقامة للحرس وبعض الموظفين والمساعدين المكلفين إدارة قيادة وشخصية شاغلة العالم.
تلك "النواة" الإدارية في "دولة فلسطين" فشلت. فقد دخلها فساد البيروقراطية والزبائنية واستغلال النفوذ في القطاع العام: تجارة، ووقود، ومواد غذائية، ولوازم حياة عادية يفترض أن تكون بسيطة على قياس بساطة القائد "أبو عمار". والمؤلم أن المدانين كانوا من بعض الأهل، ومن سماسرة الاحتلال الإسرائيلي، في المقاطعة "المستقلة" وفي سائر الأرض المحتلة، ففشل المشروع الذي كان مؤملاً أن يكون "النموذج" العصري للإدارة الفلسطينية (الفردية) المميزة بالكفايات العلمية، والمؤهلة لإدارة أكبر المؤسسات متعددة الاختصاص، وهذا ما تثبته نخب من الفلسطينيين العاملين في العالم العربي وعلى مدار العالم.
ذلك الفشل الذي أصاب السلطة الفلسطينية في بداياتها، على الصعيدين الإداري والمالي، انعكس على خطّها السياسي والنضالي، وعلى سمعتها في داخل فلسطين المحتلة، وفي العالم العربي، وانتشر في العالم الأوسع. وكما يحدث في كل مؤسسة عامة يدب الخلاف، وترتفع الشعارات العالية من أوزان النضال والأمانة والاستقامة مقدمة للانفصال ضمن العائلة الواحدة. وهذا ما حصل لمنظمة التحرير، وهو ما تمثله حالياً القطيعة بين "فتح" و "حماس".
ذلك الفشل، أيضاً، بعثر الصوت الفلسطيني المقاوم، والصوت الفلسطيني السياسي الذي يمثل مكوّنات الشعب المقاوم والصامد في الأراضي المحتلة وفي جميع أقطار العالم، وهو شعب متنوع المذهب متعدد الثقافة، والتقليد، وهو في كل مناحي حياته السياسية والحزبية والاجتماعية موحد الإيمان بحقه في دولة حرة مستقلة على أرضه التاريخية.
"فتح" و "حماس"... كيف السبيل إلى الوحدة؟ من دون هذه الوحدة لا أمل بفلسطين. فهل تجوز دعوة الفلسطينيين إلى التماثل بالصهاينة في وحدتهم؟
لقد توحّد الصهاينة في جميع أقطار الأرض على اغتصاب فلسطين بعقيدة جهنمية، وقد نجحوا حتى الآن بالسيطرة على ثلثي الأرض السليب. والآتي قد يكون أدهى في زمن بنيامين نتانياهو، وبسبب رئيس أميركي (سابق) على قدر كبير من الهشاشة والبلادة، والغموض، وهو حالياً في طور تسليم سلطاته إلى رئيس جديد ميزته الفجاجة والسفالة، والعنصرية والكره للعالم الثالث بكل أطيافه وشعوبه، خصوصاً من العرب والمسلمين. فعلى أي أمل سوف يراهن الفلسطينيون في المستقبل القريب والبعيد، وهم على هذه الحال في الانقسام والتشرذم والتباعد؟
سوف يتغير الرئيس الأميركي خلال شهر. لكن الصهيوني المقيم في البيت الأبيض لن يتغير. فهو مقيم هناك منذ ما قبل وعد بلفور الذي يعود تاريخه إلى 22 تشرين الثاني (نوفمبر) 1917. وإذ تستعد البعثة الفلسطينية الديبلوماسية في لندن لإطلاق حملة واسعة بهدف الضغط على الحكومة البريطانية لتقديم اعتذار رسمي إلى الشعب الفلسطيني وتحمل مسؤوليتها التاريخية عن ذلك الوعد المشؤوم، ينصرف الثنائي الإسرائيلي (نتانياهو وليبرمان) لإعداد خطة "تهويد" القدس وإعلانها عاصمة لدولة إسرائيل.
هو "الوعد" الأميركي بعد وعد "بلفور". وما خطة نتانياهو- ليبرمان لمنع رفع الأذان من المسجد الأقصى سوى مقدمة لتهويد زهرة المدائن، ولؤلؤة المقدسات والإيمان لجميع الشعوب.
فهل تدرك "دولة المقاطعة" و "دولة القطاع" على أي أرض تقفان؟
مع كل تلك الصعوبات يبقى أمل كبير معلقاً على قيادة جديدة لمنظمة التحرير تنبثق من مجلس وطني جديد ليرث مجلساً شاخ إلى درجة أنه قد نسي أن يلتئم منذ ربع قرن!
عزت صافي
* كاتب وصحافي لبناني