إذا كنت مترددا وخائفا فلا تسجل موقفك لان ما يكتب اليوم سيظل شاهدا عليك إلى ما شاء الله بينما بإمكانك أن تقول ما شئت وقت ما شئت مشافهة حتى يمكنك التراجع أو التنصل مما قلت أو تغيير الرأي وإعادة تفسير المفردات والجمل حسب مقتضيات الحال وإذا أردت لسلطتك أن تدوم فأنت ملزم بتغييب الثابت لصالح المتحرك وتفعيل مرض النسيان أو الذاكرة المخرومة وإلغاء التوثيق لما له من تأثير قادم على صياغة مواقف البشر والتأثير في مجريات فعل الناس ولذا تسعى أنظمة الحكم الاستبدادية في العالم إلى تهميش الثقافة الثابتة لصالح الثقافة المتحركة وتعتبر ظاهرة تغييب الكتب والمكتبات وكل ما هو مكتوب ظاهرة ملازمة لكل حكم استبدادي عبر التاريخ وقد سجل التاريخ أول حرق منظم للكتب في عهد الإمبراطورية الشينية في الصين والتي أعطت للبلاد اسمها الحالي وفلسفتها الشرعوية التي رفضت كل رأي آخر فقامت في العام 213 ق.م بحرق كل كتب المدارس الفلسفية التي تعارضها أو التي لا توافقها الرأي ولا تنسجم معها والانكى من ذلك أنهم قاموا بدفن الآلاف من رجال العلم والفلسفة وهم أحياء بسبب آرائهم المخالفة للفلسفة الشرعوية بينما اجبر من لم يحرق منهم على الأعمال الشاقة في بناء سور الصين العظيم الماثل لنا حتى اليوم.
أما حضارة المايا والتي تمتد جذورها إلى 3000 سنة ما قبل كولومبوس والتي دمرها الغزو الاسباني في أمريكا الوسطى فيعتبر نموذج آخر لذلك فقد قام المستعمرين الاسبان بمساندة ودعم من الكنيسة بتدمير وحرق جميع النقوش والكتب الخاصة بحضارة المايا بحجة أنها مخالفة للدين المسيحي وقد ملكت المايا نظام الكتابة الوحيد في العالم ما قبل كولومبوس وتعود أقدم النقوش الكتابية للمايا إلى السنوات ما بين 200- 300 ق.م وحكاية حرق الكتب لا حصر لها من مكتبة الإسكندرية وإغراق الكتب في نهر دجلة من قبل هولاكو إلى كتب ابن رشد والغزالي إلى حرق النازيين المنظم للكتب والمنحوتات والمنتجات الفنية المختلفة وحتى يومنا هذا لا زالت ظاهرة مصادرة الكتب ومنعها أو منع الاتجار بها قائمة وشاهدة على تخلف الأمم التي تفعل ذلك.
ما يهمنا هنا هي الكتابة الورقية أو الكتب المطبوعة في عصرنا وبلادنا فالعرب امة المشافهة الأبرز بين البشر في العصر الحديث ويعود ذلك إلى أن الطباعة لم تعرف عند العرب إلا في القرن السادس عشر حسب كتاب " التاريخ الاجتماعي للوسائط " تأليف " آسيا بريغز وبيتر بورك " حيث يورد الكتاب المذكور ما نصه " في العالم الإسلامي ظلت مقاومة الطباعة قوية على امتداد أوائل العصر الحديث ، حتى أن الدول الإسلامية كانت بالفعل هي العائق أمام انتقال الطباعة من الصين إلى الغرب ، ووفقاً لسفير إمبريالي في إسطنبول في منتصف القرن السادس عشر كان الأتراك يرون أن طباعة الكتاب المقدس ( القرآن ) شيء محرم ، وقد كان الخوف من الهرطقة هو الأساس في معارضة الطباعة والتعليم الغربي ، وفي العام 1515 أصدر السلطان سليم الأول ، مرسوماً يقضي بتنفيذ عقوبة الإعدام فيمن يمارس الطباعة ، وفي نهاية القرن السادس عشر سمح السلطان مراد الثالث ، بتداول الكتب المطبوعة غير الدينية المكتوبة بأحرف عربية ، وهذه الكتب كانت في الغالب مستوردة من إيطاليا " ومن الواضح أن رغبة الحكم الاستبدادي بمنع وسائل الاتصال المعرفي تكون جامحة لحماية سلطته لان تداول وسائل الاتصال المعرفي يحرم السلطة الاستبدادية من الرقابة وفي حالة اقرب إلينا أن نظام حكم صدام حسين حتى نهايته منع وجود أجهزة اللاقط للمحطات الفضائية في العراق جميعه وأبقى فقط على المحطات الرسمية في البلاد كوسيلة معرفة وحيدة لمواطنيه مسيطر عليها بالكامل من قبل سلطته المطلقة وكما حاربت الكنيسة في عصرها الاستبدادي الظلامي الكتابة ومنعت الكتاب والعلماء من النشر والتأليف وحاكمتهم على آرائهم ومواقفهم بما في ذلك إصدار أوامر الموت والنفي والحرمان بحقهم كانت الدولة الإسلامية كذلك بعديد عصورها فقد قتل وعذب الأمويين كل من غيلان الدمشقي وقتلوه على يد هشام بن عبد الملك بسبب مواقفه الناقدة لحكم الأمويين وبذخهم ويكفي أن ننقل ما نقل عن غيلان الدمشقي من قول بان " الله ليس هو خالق أفعال المعصية بل الإنسان هو صانعها وهو المسئول عنها " لنرى كيف حارب الأمويين وانتقد حكمهم وساهم في فترة حكم عمر بن عبد العزيز في ترسيخ العدل في الدولة.
أنظمة الحكم يهمها جيدا التثقيف الشفهي المسيطر عليه وهي لذلك حرصت عبر التاريخ على تدجين نظام الخطابة في الإسلام ووظفت خطباء المساجد واعتبرتها مهنة رسمية تابعة للدولة وأعطت للدولة حق مراقبة فحوى خطبة المسجد بل وأحيانا كتابتها وإلزام الخطيب بتلاوتها حرفيا وعبر خطباء المساجد ظهر الترويج للاكم واسمه وأفعاله والتمجيد والدعاء له حتى صارت لازمة لدى كل خطباء المساجد بالدعوة لولاة أمرهم وأصحاب وظيفتهم ونعمتهم ولم تكن الكنيسة بأفضل حال أصلا فهي مؤسسة ثقافة التلقين الشفهي عبر خطبة الأحد واللقاءات الكنسية وكان " مارتن لوثر " محقا حين سمى الكنيسة بأنها " دار فم لا دار قلم " وهناك فرق شاسع بين الاستماع الإلزامي لكلام خطيب المسجد أو الواعظ وبين القراءة في كتاب والقدرة على التمعن والتفكير والعودة مرة وأخرى للفكرة للتأكد منها ومن صلاحيتها أو صحتها وهذا طبعا غير متاح فيما يخص الخطاب الشفوي الذي يمر مرور الكرام فيعلق ما يعلق في الذاكرة حسب فهم اللحظة لا عبر إمعان الفكر ولهذا حرصت أنظمة الحكم الاستبدادية أيضا على التحكم بالطباعة والنشر وظلت حتى يومنا هذا واحدة من مهام الدولة أو بمراقبتها وقد تكون الدول العربية من الدول القلائل في العالم التي لا زالت تصدر تراخيص للنشر والتأليف والطباعة بما يشمل الآداب والفنون بكل أشكالها.
من المفترض أن يكون القرآن الكريم هو الكتاب الوحيد المقدس والثابت الذي لا يناقش إلا أن السلطات المتعاقبة لتحالف الدولة مع أتباعها من رجال الدين الرسميين كموظفين تابعين للدولة غيبوا عامدين المقدس الأصيل لصالح تقديس التفسير وباتت كتب مثل صحيحي البخاري ومسلم ينظر إليهما بصورة تصل حد القداسة وما ورد فيهما مطلق تماما كما يقال الأمر في النصوص القرآنية وهو ما يسعى إلى إلغاء العقل النقدي وقدرة الفرد على التحليل وإطلاق العنان لفكره في البحث والتنقيب بعقل نقدي مدرك لا حدود له ودون خضوع لإرادة حاكم فرد أو جماعة وبدون ذلك فان القدرة على اختراق السقوف الاستبدادية يصبح مستحيلا.
ثقافة المشافهة هي أداة المستبد لفرض سيطرته على بهدف إخضاع المحكومين لسلطته عبر فرض قناعاته ومبررات استبداده مهما كانت واهية, وذلك عبر تحديد قنوات التواصل البشري مع المحكومين باستخدام الأبواق المتاحة له إعلاميا كالخطباء والدعاة والأدوات الحديثة كالراديو والتلفاز لتقديم رؤياه فقط لجمهور المتلقين بما يضمن له عدم وصول الفكر الناقد لسلطته وأدواتها للمحكومين باعتبار أن الكلمة المطبوعة قادرة على الوصول خفية دون اكتشافها والانتقال من يد إلى يد كمقدمة للانتقال الطبيعي من عقل إلى عقل وهو ما يهيئ لتثقيف جمهور المظلومين وتسليحهم بأدوات الخلاص من الحكم الاستبدادي وبنفس الوقت فان جمهور المترددين والمرتجفين خوفا من الحاكم المستبد يقبلون بثقافة المشافهة لسهولة نفض أيديهم من أي قول خشية قمع الحاكمين وأدواتهم عند الضرورة فهي إذن أداة مشتركة ومقبولة للمستبد أولا وللمرتجف ثانيا وبنفس الدرجة لمصلحتين متناقضتين وهو ما جعلها قادرة على الحياة في ظل كل حكم مستبد.
بقلم
عدنان الصباح