قبل أيام أصدر مجلس الأمن الدولي القرار رقم 2334 الذي يطالب إسرائيل بوقف الإستيطان في الأراضي المحتلة عام 1967، قراراً مهماً لكنّه غير تاريخي نظراً لما سبقه من قرارات أكثر أهمية بشأن الإستيطان وقضايا أخرى مختصة بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وليس إنتصاراً لأن إسرائيل ما زالت تحتل الأراضي الفلسطينية وتصعّد من هجماتها الإستيطانية فيها وتواصل جرائمها اليومية بحق الشعب الفلسطيني.
لست بصدد الكتابة عن مضمون هذا القرار وصياغته الملغومة التي جرى التهليل لها فلسطينياً دون معرفة من أحد، بمن فيهم اللجنة التفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، يهمني أن اكتب عن رد الرئيس محمود عباس بعد صدور هذا القرار، حيث قال ( أننا قد فتحنا الباب من أجل المفاوضات ومن أجل السلام)، بعد هذا الموقف أعلن نائب وزير الخيارجية الروسي ميخائيل بوجدانوف أن الرئيس عباس وافق على لقاء رئيس وزراء إسرائيل دون أيّ شروط مسبقة وفي الحال ....، في نفس الوقت نشرت أحد الصحف المحلية نقلاً عن مصادر لم تفصح عنها عن وثيقة لوزير الخارجية الأمريكي سمّيت "بإتفاق إطار" تنص على إقامة دولة فلسطينية ضمن حدود عام الرابع من حزيران 1967 مع تبادل للأراضي، وإبقاء ما بين 75% إلى 80% من المستوطنين الاسرائيليين في الضفة الغربية تحت السيادة الإسرائيلية، مع تحديد نسبة التبادل المتساوية، كذلك تنص على أن يعترف الجانب الفلسطيني بموجب ذات الوثيقة بيهودية دولة إسرائيل"، مقابل ان تعترف إسرائيل بالدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشرقية، ومن ثم يعلن الجانبان إنهاء الصراع بينهما.
قرار مجلس الامن بشأن الإستيطان وموقف الرئيس عباس إثر القرار وتصريحات بوجدانوف وتسريبات جريد القدس الفلسطينية حول خطة كيري جميعها تقود صراحة إلى عنوان واحد وهو المفاوضات مع الإحتلال، وكأن الجميع ينتظر فرصة العودة لهذه الملهاة التي إستمرت قرابة العقدين، واستخدمت ستاراً على كل جرائم الإحتلال التي مارسها دون توقف أو كلل بحق الفلسطينيين أرضاً وشعباً، في وقت حصرت القيادة السياسية الفلسطينية نفسها في خيار المفاوضات والتنسيق الأمني، نفذته بكل أمانة دون أدنى محاولة منها للتمرد عليه!
عن أيّ مفاوضات يتحدث الرئيس عبّاس، ما الذي تغيّر سياسياً أو ميدانياً لكي يقدّم هذا العرض السخي لرئيس دولة الإحتلال؟، وكيف له أن يفعل ذلك في ظلّ إعلان إسرائيل عن الشروع في بناء آلاف الوحدات السكنية في المستوطنات متحدية قرار مجلس الأمن الدولي الأهير وما سبقه من قرارات؟، ما هي مرتكزات العملية التفاوضية التي اعتمد عليها الرئيس عباس لكي يقدم على هذا الإعلان دون العودة لمنظمة التحرير الفلسطينية وشركاه من فصائلها واحزابها وخارجها؟
حنجلة الرئيس عبّاس نحو المفاوضات ستفجر من جديد صراعاً سياسياً يضاف لجملة الكوارث التي لحقت بالشعب الفلسطيني إذا ما نجح في فعل ذلك، وتكشف حقيقة هروبه من ملف المصالحة الفلسطينية الشاملة وبحثه عن شرعية مضروبة كالتي أراد أن يحصل عليها تحت عنوان المؤتمر السابع لحركة فتح، ويحاول لقحها بمناورة لعقد إجتماع المجلس الوطني الفلسطيني في رام الله.
أصبح واضحاً للجميع سبب قيام إسرائيل منح تسهيلات للرئيس عباس لعقد جمهرة المقاطعة، وما أطلق على تسميتها (المؤتمر السابع لحركة فتح)، فهي تريد مفاوضات لا متناهية تكرّس واقعاً خطيراً يطيل أمد الإحتلال وما يمارسه من توسع إستيطاني، وتريد رئيساً فلسطينياً مطيعاً يؤدّي وظيفة المفاوضات والتنسيق الأمني ويمارس البلطجة والقهر بحق أبناء الشعب الفلسطيني، وتطلب من العالم زيادة المكافآت المالية لسلطته التي تنفق ما يقارب 40% منها لصالح أجهزة الأمن، والعالم الذي ينفق يغض البصر عن فساد الرئيس وعائلته وعن مختلف الإنتهاكات الجسيمة التي يقوم بها بحق الشعب وممثلي الشعب والقوانين التي تنظم العلاقات بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية.
بعد حوالي أربعة عقود من فشلها، نجحت إسرائيل في إنتاج نسخة جديدة من "روابط القرى"، وتحاول توفير بيئة ملائمة لإستمرار عملها، هذه النسخة التي خاضت في حقل المحرمات السياسية والوطنية تحت يافطة الشرعية والترهيب البوليسي والإبتزاز المالي بحق الأفراد والمنظمات السياسية لتصل بالفلسطينيين إلى مرحلة اليأس والإحباط، وتجعل من العمل الوطني ضرباً من الجنون يحاسب عليه القانون، ويتعارض مع بدعة "المقاومة الذكية" ونشر القضية الفلسطينية عن طريق "الشورتات"!
نسخة جديدة من روابط القرى تعمل على خلق قطيعة مع العرب وتعزز من لجان التواصل مع المجتمع الإسرائيلي وعمليات التطبيع والشراكات الإقتصادية مع رجال الاعمال في إسرائيل ومراكمة ثروات شخصية متزامنة مع غزوات على جيوب الفلسطينيين لتقتل فرص العيش والحياة الكريمة، ألم تحطّم غزة رقماً قياسياً عالمياً في معدلات الفقر والبطالة؟
سيكون ترفاً سياسياً، بل تبديداً للوقت واستنزاف للشعب الفلسطيني، الحديث عن أيّ فرصة لتصويب الواقع الفلسطيني من خلال حوار مع النسخة الجديدة لروابط القرى، كل الوقائع تثبت أن الرئيس عباس ماضً فيما بدأ، وهو يعلم أن المفاوضات والتنسيق الأمني فرصته الوحيدة التي تجنبه سرعة السقوط، لهذا يتمسك بهذه الفرصة دون تردد، ويضرب بعرض الحائط قرارات المجلس المركزي الفلسطيني الهامّة التي صدرت عن آخر إجتماع له، ويتهرب من جدّية التوجه لمحكمة جرائم الحرب التي ستدين الإحتلال وتحاكم قادته، ويتخلي عن أيّ مظهر له علاقة بمقاومة الإحتلال سواء كان سلمياً أو عنفياً، بل يجند كل أجهزته الأمنية لملاحقة المنتفضين، ويتباهى مع اركان قيادته بتفتيش حقائب طلبة المدارس بحثاً عن آلة حادة قد تجرح مستوطن.
العودة للمفاوضات قبل العودة للشعب وقبل وقف الإستيطان جريمة وطنية لن يسكت عنها الشعب، ولن توفر الحماية لنظام سياسي فاسد مستبد متهالك يسنده الإحتلال.
بقلم: محمد أبو مهادي
[email protected]