ملابس النساء قبل 50 سنة كانت فاضحة أكثر مما هي عليه اليوم وكانت حالات التحرش لا تذكر، فما السبب في زيادتها المسعورة في هذا العصر؟هو سؤال يستبطن استبعادا تاما لضرورة تحلي النساء بالحشمة، باعتبار أن العلة ليست ما تلبسه المرأة ولكن التحرش دوافعه كلها تخص المتحرشين، ويقدمون أدلة بوجود حالات تحرش بمحجبات بل ومنقبات...فهل المعادلة صحيحة؟أي لا علاقة لملابس النساء بوجود أو زيادة التحرش سواء أكان لفظيا أم جسديا؟!
إن التحرش بالنساء ظاهرة مركبة، اللباس جزء رئيس منها وليس وحده سببها.
ففي هذا العصر زادت التعقيدات أمام الشباب لفتح بيوت بالحلال، وفي هذا العصر غلبت الظاهرة الجسدية والمادية على الرومانسية، فمثلا كان الناس معنيون بصوت أم كلثوم لا بجسدها، ونلحظ حاليا أنه لو ظهرت مطربة لها صوت أم كلثوم ولا تظهر مفاتـنها فلن يكتب لها النجاح على الأغلب...بل صارت الشهرة أو النجومية لمطربة أو ممثلة أو حتى لبعض مقدمات البرامج التلفزيونية مرتبطة بما يسميه الإعلام بـ(الملابس الجريئة)...نعم جريئة في مخالفة الدين والفطرة السليمة ومحاولة الإغواء بما يمكن من استفزاز الغرائز والشهوات.
جملة معترضة:لا أسمع شيئا يذكر لأم كلثوم، ولست من المعجبين بصوتها، ولكن أحلل ظاهرة الاهتمام بالجسد على حساب أشياء أخرى.
ولم تعد ملكة اللغة والأداء مقدمة على جمال المظهر في الإعلام المرئي؛ فصار من لزوم (النجاح) أن تجلس مقدمة البرنامج بجوار زميلها وتبادله المزاح والابتسامات، مع خضوع في القول، وهذا ينسحب على الدراما التي كثير من محتواها يقدم المرأة سلعة، ويقدم العلاقات غير المشروعة أمرا طبيعيا يجري في المجتمع...فنحن نعيش عصر تسليع لجسد المرأة في كل مجال؛ في الإعلام والأعمال والتعليم والثقافة...فالرجل لم يعد يرى من المرأة جانبا إلا ما هو محفز للشهوة أو داع لاستحضارها في كل وقت ومكان تقريبا!
وفي عصرنا زاد الاهتمام بالثقافة الجنسية وصارت اهتماما مشتركا للمتدين وغير المتدين وغزت الثقافة هذه كل المجالات، حتى صارت طاغية على كل ألوان الثقافة الأخرى، وطبعا هي تجذب الجمهور، وازدياد تعاطي هذه الثقافة وطغيانها يوحي للمرء وكأن الحياة هي جنس فقط لا غير!
فصار العالم (جنسيا) بلا مبالغة،فكيف تطفأ الغرائز بالحلال في ظل الغلاء والبطالة الموازية للإغواء في الشارع والشاشات وأماكن الدراسة أو العمل؟فالرجال يرون المرأة في الشارع بلباس يستدعي(الذكورة/الفحولة) وإذا أغمضوا أعينهم التقطت أنوفهم الروائح العطرة التي تلح في استدعائها...هذه هي الحقيقة ولن أستخدم التورية أكثر من ذلك!
العامل التربوي مهم ومركزي لدرء ظاهرة التحرش، ولكن التربية ليست مجرد كلمات ومحفوظات ومواعظ أخلاقية، فالتربية يجب أن تدعّم بالسلوكيات العملية، التي تعطي نموذجا بأن الحياة ليست فقط أجسادا متعرية، يطلب منك ضبط النفس التوّاقة و احترامها وعدم التعرض لها؛ لأن تربية كهذه متناقضة وتحمل في جوهرها انفصاما؛ وتجعل المرء يعيش عالمين متنافرين، أحدهما مثالي قائم على الوعظ وضرورة التسلح بالأخلاق الحميدة، وآخر واقع يحياه الفرد، فيه كل ما هو مناقض للأول!
وفي الستينيات لم يكن الزواج عملية معقدة دونها دفع مبالغ مالية كبيرة وديون متراكمة، وتعقيدات نعرفها جميعا، وفي الستينيات كان هناك اهتمام جماعي بقضايا كبرى خاصة في عالم السياسة، ولكن مع جعل السياسة للسياسيين انحبست طاقات الشباب، بل صار من يهتم بالسياسة وأمر الأمة مشبوها أو مثار سخرية من حوله، فأين ستصرف وتفرغ الطاقات بناء على ما أسلفناه من عوامل؟فالأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية الحالية لا تقارن بمثيلتها قبل بضعة عقود.
فالعبرة ليست فقط بالألبسة النسائية الفاضحة الخادشة للحياء، إذا أردنا مقارنة حالات التحرش قبل عقود بما هي عليه اليوم؛ فهناك فعلا محجبات يتعرضن للتحرش، ولكن أكيد عددهن أقل من المتبرجات،والظاهرة –أي التحرش-ليست جديدة عموما؛ فقد روي أن الشاعر عمر بن أبي ربيعة تعرض لامرأة في موسم الحج وقت رمي الجمار، ولم يرتدع من محاولتها صده بتذكيره بحرمة وخصوصية المكان والزمان، فلجأت إلى اصطحاب أخيها معها في مرة تالية فما تجرأ الشاعر المستهتر على التعرض لها مرة أخرى لما رأى معها أخاها،فأنشدت تقول:-
تعدو الذئاب على من لا كلاب له***وتتقي صولة المستأسد الضاري
وروي بأن الخليفة العباسي المنصور لما سمع بخبرها قال:وددت لو أنه لم يبق فتاة من قريش إلا سمعت بهذا الخبر!
وهذا أحد عوامل اتقاء التحرش؛ أي أن تخرج المرأة مع رجل، وأن تقلل قدر المستطاع من الخروج وحدها، وأن تلتزم بلباس محتشم، وأن تحرص على عدم الخضوع في القول، أي لا توزع الابتسامات يمنة ويسرة وتتحدث أمام الرجل بميوعة أو تكسر، وهذا سيقلص ولا أقول ينهي الظاهرة.
أما المجندرات اللواتي تسلمن منابر الحديث عن المرأة وحقوقها وفرضن أنفسهن متحدثات نيابة عن النساء في المجتمعات العربية، بلا تفويض ملموس؛ فإن طرحهن سخيف ولا يحل المشكلة،فهن يرفعن شعارا ينسفه الواقع؛ فهن يقلن:أنا من حقي أن ألبس ما أشاء وعليك ألا تنظر إلي كجسد فقط، فبالله عليكم هل هذا الطرح السقيم يستقيم مع الفطرة؟كيف سينظر لك (الذكر) وقد جعلت من نفسك أمامه مجرد جسد (أنثى)؟هل لباسك الكاشف لما أمر الله بستره، سيجعل الرجل يرى فيك جانبا آخر غير الجانب الذي تطالبين ألا يراه؟
إن الحشمة مطلوبة وهي أمر فطري؛ فحتى (إسرائيل) التي تبيح الدعارة والتعري وكل الإباحية فيها، فرضت على النساء العاملات في البرلمان(الكنيست) الالتزام بلبس محتشم(حسب معيارهم) يمنع الدخول بالتنورة القصيرة...فكيف بعرب ومسلمين فيهم من يدعو أو تدعو إلى ترك الحشمة؟!
إن المتحرّش خرج من الرجولة إلى الذكورة، وتخلى عن القيم الدينية والأخلاقية، وتعريضي بالنساء اللواتي لا يتحرّين الحشمة في السطور السابقة لا يعني الدفاع عنه، فالمروءة موجودة عند من هم يوازونه أو يزيدون عنه في الذكورة، ولكنهم لم يسمحوا لها بأن تطغى وتظهر بهذا القرف الذي نراه ونسمع ونقرأ عنه.
والخلاصة:أمر الله تعالى لو التزم به الرجال بأن يغضوا أبصارهم،والتزمت به النساء وأدنين عليهن جلابيبهن،لما كنا بحاجة إلى هذا النقاش.
،،،،،،،،،،
السبت 25 ربيع الأول 1438هـ ، 24/12/2016م
من قلم:سري عبد الفتاح سمّور(أبو نصر الدين)-جنين-أم الشوف/حيفا-فلسطين