بمرور ما يزيد عن العشرة أيام على عملية اغتيال المهندس محمد الزواري في مدينة صفاقس جنوب تونس، لم تظهر أي مؤشرات تدعم الشكوك القوية التي سرت حول تورط جهاز المخابرات الاسرائيلي في الجريمة.
وربما كانت طبيعة الأبحاث وتعقيداتها سببا لتلك النتيجة، ولكن البطء الشديد والملحوظ في توجيه اتهام ولو أولي لاسرائيل، على اعتبار صلة الزواري بحماس، بات يثير الكثير من الاستفهام. لعل اكثرها كاريكاتيرية هو ما اذا كان السبب الاصلي وراء ذلك، أن الجهات المختصة لم تعثر حتى الان على بطاقات هوية أو بصمات اصابع بتورط اسرائيليين، أسوة بما تم في حادثة الدهس التي حصلت قبل ايام في سوق اعياد الميلاد ببرلين، ووجه المحققون الالمان فيها، بناء على ما قيل إنها بطاقة هوية وبصمات اصابع عثر عليها لاحقا، اتهاما مباشرا إلى شاب تونسي بالضلوع في المجزرة الفظيعة. لكن الارهابي أو الارهابيين الذين اطلقوا الرصاص ظهيرة الخامس عشر من الشهر الجاري على "المرحوم" كما وصفه رئيس مجلس نواب الشعب، لم يتركوا لسوء الحظ سوى المسدسات وكواتم الصوت التي استخدموها في الاغتيال، ونسوا على ما يبدو أن يضعوا بطاقات هوياتهم الاسرائيلية على مقاعد السيارة التي تخلصوا منها بعد إنجاز المهمة، وغفلوا ايضا عن أن يتركوا داخلها اي بصمات اصابع قد يدل الاختبار العلمي لاحقا على انها تخص أفرادا يحملون الجنسية الاسرائيلية.
هل حصل ذلك لانهم كانوا اكثر حنكة ودهاء من التونسي المشتبه فيه في عملية برلين؟ أم لان تلك العناصر والجزئيات لم تكن سوى مقاطع رديئة من مسرحية سخيفة ومكشوفة، حبكت لاجل توجيه اتهام جاهز على المقاس؟ قد يقول البعض أن شريط الفيديو الذي نشره تنظيم "داعش" وظهر فيه انيس العامري وهو يبايع زعيم التنظيم ابوبكر البغدادي، ويتوعد من وصفهم بالخنازير في اوروبا، هو الدليل الاقوى على انه منفذ اعتداء برلين، في حين أن الجهة التي اعتدت على سيادة تونس وقتلت في واضحة النهار واحدا من ابنائها لم تصدر إلى الان اي شريط أو اعتراف واضح وصريح بضلوعها في الجريمة. صحيح أن وزير الحرب افيغدور ليبرمان قال، في تصريح نقلته عنه الاذاعة الاسرائيلية، تعليقا على اغتيال الزواري إن "اسرائيل تفعل ما يجب القيام به للدفاع عن مصالحها" قبل أن يضيف بشيء من الازدراء بانه "اذا ما قتل شخص في تونس فأفترض انه لم يكن نصيرا معروفا للسلام، ولم يكن مرشحا لجائزة نوبل للسلام". ولكن ذلك لا يعني شيئا كبيراعلى ما يبدو في تونس، ولا يشكل دليلا أو حجة قانونية قوية تكفي لاتهام الاسرائيليين بالضلوع في مقتل المهندس. ولأجل ذلك فليس هناك داع اذن أو مبرر للتسرع والاستعجال، ولا جدوى من خوض "معركة دبلوماسية خاسرة" في اروقة الامم المتحدة ومجلس الامن، وتقديم شكوى باسرائيل مادامت الادلة والقرائن والبراهين حول ضلوعها بشكل مباشر، أو حتى غير مباشر في الاغتيال، مفقودة وغير مكتملة في افضل الحالات، مثلما نبه لذلك دبلوماسي محلي سابق في مقابلة اجرتها معه الجمعة الماضي قناة "التاسعة" الخاصة.
ومن الواضح أن ردة فعل السلطات وارتباك مواقفها يدل على أن الامر ليس بسيطا أو هينا بالنسبة لها، عكس ما قد يظن بعض المتحمسين والثوريين، اذ لم يعد ممكنا توجيه الاتهام تلقائيا وبسهولة لاسرائيل، دون المرور بكل المراحل والخطوات البيروقراطية وقراءة التوازنات وحسابات الربح والخسارة جيدا وبصورة براغماتية بعيدة عن العواطف والانتماءات. وفي تلك الحالة فقط اذا ما "ثبت أن هناك من تعدى على ارض تونس ودخل واستباح حرمتها، فمن المؤكد أن الدولة سترد على ذلك الاعتداء"، مثلما اكد وزير الخارجية التونسي في تصريح مقتضب لصحيفة "المغرب" المحلية قبل أن يضيف، أن الاهم هو ألا يتم "استباق الاحداث". أما كم سينتظر التونسيون حتى يجهز الملف وتكتمل التحقيقات ويتحرك الاسطول الدبلوماسي الجرار نحو نيويورك، ليدك معاقل المعتدين ويسحقهم بقرار اممي ماحق يدين ما اقترفوه من جرائم في حق الدولة وحق واحد من مواطنيها العزل، فذلك ما لا يعلمه إلا الله والراسخون في فنون الدبلوماسية وتقلباتها.
وحتى يحصل ذلك الفتح المبين فلن يكون غريبا أو مستبعدا أن تظهر في المستقبل روايات أخرى أو يوجه الاتهام إلى طرف مغاير قد لا يكون اسرائيليا بالضرورة. إذ ربما نجد على لائحة المتهمين المفترضين، حماس وكتائب القسام أو حتى "داعش" مادام هناك نوع من البرود والتشوش الداخلي والتشكيك المستمر في اعتبار الزواري شهيد تونس، أو شهيد حماس، وتواصل المحاولات لتوجيه الانظار بعيدا عن اصل المشكل، بالتساؤل عما كان يفعله المهندس في غزة؟ ولماذا ساعد حماس ولم يستغل قدراته العلمية في مساعدة الجيش التونسي في حربه على الارهاب؟ والحديث المسقط والمكرر عن أن حماس دربت ارهابيين في تونس، وهي مواضيع الساعة في بعض وسائل الإعلام المحلية.
وما يعنيه ذلك ببساطة هو أن معرفة القاتل هنا تبدو مجرد تفصيل لا يقدم ولا يؤخر أو يفيد في شيء. وقد يكون هذا هو المنطق الذي تتبناه السلطات وتدركه جيدا ولكنها لاعتبارات معروفة لا تجرؤ على التصريح به بشكل مكشوف. ولاجل ذلك فهي تحتاج لاستهلاك بعض الوقت حتى تطوى الصفحة وينسى الناس طيار حماس، مثلما نسوا في السابق مجزرة حمام الشط و جريمة اغتيال ابو جهاد وابو اياد. والموازنة الصعبة التي يضعها المسؤولون نصب أعينهم هي، بين ما ستخسره تونس في حال فتحت باب مواجهة دبلوماسية مع الكيان الاسرائيلي ومضت أبعد من ذلك في اتجاه تجريم كل اشكال التطبيع معه، مثلما طالبت بذلك بعض الوجوه والكتل البرلمانية، وما ستكسبه في حال ما إذا اشادت بالمهندس الزواري واعتبرته شهيدا وطنيا جديرا بالاقتداء والتكريم، للجهد الذي بذله في مقاومة الاحتلال واعطت ضوء اخضر للدعم الرمزي والمعنوي للمقاومة.
إنه مأزق حقيقي بين الانحياز للمشاعر الفطرية والطبيعية في التعاطف مع القضية الفلسطينية والرضوخ للضغوط والحسابات السياسية التي تقتضي تجنب فتح جبهة جديدة قد لا تكون الظروف الداخلية والاقليمية ملائمة لها.
وربما عكس اتصال المستشارة الالمانية ميركل بالرئيس الباجي قائد السبسي يوم الاعلان عن مقتل المشتبه فيه في اعتداء برلين من اجل لفت نظره لضرورة "الاسراع بترحيل التونسيين المقيمين بشكل غير قانوني" في المانيا، جزءا اخر من الصعوبات التي يواجهها التونسيون في الصمود امام ضغوط شركائهم الاوروبيين من جانب، وتأمين جبهتهم واستقرارهم وامنهم الداخلي من جانب اخر. والواضح أن ما يزيد في تضييق مجال المناورة امامهم، تفاقم الازمة الاقتصادية والحديث عن التهديدات التي قد تشكلها عودة المقاتلين، مما يوصف ببؤر التوتر وحاجتهم الملحة إلى دعم حلفائهم التقليديين داخل اوروبا وخارجها.
اما السؤال الذي يفرض نفسه هنا فهو، هل سيقف الاوروبيون معهم اذا ما اطلعوهم على البصمة الاسرائيلية في اغتيال الزواري؟ أم انهم سينفضون من حولهم ويتهمونهم بتشجيع شبابهم على الزحف الارهابي نحو القارة العجوز؟
والاهم من ذلك كيف سيكون موقف الادارة الامريكية الجديدة من مثل ذلك الاتهام؟ وهل سيقبل به الرئيس ترامب المزعوج اصلا من قرار مجلس الامن الاخير حول الاستيطان؟ إن ما يملكون فعله على الارجح هو أن يعترفوا بالبصمات التونسية في برلين ويقروا بها حتى في غياب الادلة والحجج والبراهين. أما البصمات الاسرائيلية التي يدركون انها ثابتة ومؤكدة فربما باستطاعتهم أن يرددوا الجملة الشهيرة التي يقولها دوما رموز الممانعة والمقاومة، من انهم سيردون على العدو "في الوقت والمكان المناسبين" مع ادخال التعديل الاتي عليها: "سنرى تلك البصمات ونخبركم بالتأكيد عن القاتل، لكن فقط في الوقت المناسب" الذي يظل مجهولا ومعلقا في علم الغيب.
نزار بولحية
كاتب وصحافي من تونس