لا يمكن قراءة تاريخ الثورة الفلسطينية دون الإشارة المتكررة لهذا الحضور المهم والدور الفاعل الذي قامت به حركة فتح خلال مسيرتها النضالية والتكاملية، والتي ارتكزت على التنوع في الأساليب والأدوات واتفاق مطلق حول الخطوط العريضة مع الاحتفاظ بحق ومنهج الاختلاف الإجرائي والتكتيكي، يجب علينا ان نستهلم الدروس من هذه المسيرة الغنية والطويلة بعد اثنان وخمسون عاما ، واستذكار المواقف التي تصلح ان تكون فانوساً يضيء عتمة الطريق الوعرة للمارد الفلسطيني.
لقد كان انطلاقة حركة فتح، انطلاقة المارد الفلسطيني، انطلاقة شرارة الكفاح المسلح من رماد النكبة إلى جمر الثورة طريقا لمسيرة كفاح ونضال الشعب الفلسطيني ، وكانت انطلاقتها ليست مجرد ولادة رقمية ولا إضافة جانبية، بل كانت ولادة من رحم الحاجة والضرورة الفلسطينية ، فالشعب الفلسطيني اليوم ما زال يهتف الى الشهداء القادة العظام للرئيس الرمز ياسر عرفات ولأبي جهاد وابو العباس ولجورج حبش ولأبي إياد وطلعت يعقوب وابو علي مصطفى وعمر القاسم وسليمان النجاب وابو احمد حلب ولسمير غوشة وعبد الرحيم احمد وزهير محسن وفضل شرورو وسعيد اليوسف وابو العز وابو بكر وابو العمرين، ولن ننسى الشهيد الاول احمد موسى وشهيد فلسطين ولبنان عز الدين الجمل وكل الشهداء ،والشعب الفلسطيني ما زال يندفع عبر انتفاضته ومقاومته للاشتباك مع الاحتلال وقطعان مستوطنيه دفاعا عن الارض والانسان ، ووهذا يتطلب من الجميع الحفاظ على هذا الوهج، باعتباره الطريق المقدس الذي يقود إلى غاية اكثر قداسة.
من هنا نرفع صوتنا اليوم ونحن في الذكرى الثانية والخمسون لانطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة يجب العودة الى الوحدة الوطنية الفلسطينية التي تشكلت من النسيج الوطني المتكامل ممتزجة بالألوان والظلال والتشكيل، وكانت كلها في آخر المطاف تعكس صورة فلسطين في أبهى حللها، كانت غابة البنادق تلك تعبر عن الديمقراطية الثورية التي تترعرع وتنمو ويجد الجميع مكاناً له ومنبراً ليقول كلمته، كانت فلسطين، رغم قسوة الظروف وشدة الأحوال، تتفاعل وتعيد إنتاج نفسها دون أن تفقد بوصلتها وتنزلق نحو انقسام كارثي كما نراه اليوم، لأن الجميع تماهى في كل شيء، بل كان الهدف الأسمى هو الذي يجعل من الخلافات والاجتهادات والتفسيرات مجرد قضايا جانبية لا يمكن لها أن تحرف بوصلة النضال الوطني، بمعنى آخر لم يتم تغليب التناقض الثانوي على التناقض المركزي، إذ ظل النضال من أجل فلسطين هو أساس المعركة، ولم يتم استحضار صراع ما على القوة، لان الجميع كان يدرك الطريق الذي يحدد وجهة الوصول.
الدرس الآخر الذي لابد من استذكاره ونحن في ذكرى الانطلاقة العظيمة ان القيادة كانت تمتلك الإرادة وخلق أشكال سياسية وكفاحية بلا مراتب أو محاسيب ، لأن النضال الوطني هو مهمة شائكة وصعبة، وخاصة في مرحلة تحرر وطني معقدة كالتي نعيشها اليوم في ظل مواجهة عدو
استيطاني صهيوني عنصري ومشاريع تستهدف شطب الحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني .
ان الحاجة للوحدة الوطنية وللدروس الكبيرة التي يمكن تعلمها من هذا الدور الريادي لحركة فتح والثورة الفلسطينية في هذه المسيرة العظيمة، حيث اثبتت حركة فتح من خلال مؤتمرها السابع انها قادرة على استنهاض اوضاعها لما لديها من قدرات ونفوذ وعلاقات لم تسع يوماً لهدم المعبد، حيث اكدت على رفض الوصاية والاحتواء وان من يريد ان يكون مع القرار الفلسطيني المستقل يجب ان يكون تحت مظلة منظمة التحرير الفلسطينية الخيمة والكيان السياسي والمعنوي للشعب الفلسطيني وممثله الشرعي والوحيد ، هذا البيت المقدس الذي جُبل بدماء الشهداء، واكدت ان الخلاف سمة البشر والعقول النشطة والقلوب القلقة على المستقبل، وأظن أنه ضروري في الساحة الفلسطينية، ونحن نحتفل بانطلاقة حركة فتح االرئدة لابد من التذكير بضوابط الخلاف وحدوده، والمدى الذي يمكن الوصول إليه ونحن نعيش حالة الانقسام الكارثي .
امام هذه الذكرى المجيدة يظل السؤال حول فرص نهوض كافة الفصائل والقوى الفلسطينية في اطار منظمة التحرير الفلسطينية كقوة فاعلة في المشهد السياسي والنضالي، وعودة دورها الكبير، ذلك الدور الذي كان في لحظة يشكل قوة كفاحية ونضالية و سياسية واجتماعية وثقافية فاعلة وبذلك هي ضمانة من ضمانات حماية المشروع الوطني الفلسطيني ، وهذا يتطلب تفعيل وتطوير مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية على ارضية شراكة وطنية حقيقية ، كما يتطلب من الاخوة في حركة فتح إجراء مراجعة شاملة حول هذا الدور وماهيته وأدواته وسبل إنجازه فإن أي حديث عنه سيكون مجرد حديث صالونات.
ورغم اشتداد العاصفة فيجب ان لا ننحني ولن نغفل ، ونحن في ذكرى انطلاقة حركة فتح المدرسة الثورية أخذت على نفسها العهد بالمقاومة حتى الرمق الأخير كيف لا وهي من خطت في سفر حياتنا ملامح مواجهة العدو وأدواته دون ان نتنازل عن الثوابت الفلسطينية، وعلينا ان نحافظ على مسيرة الثورة بمعناها الحقيقي ، وعلى المشروع الوطني الفلسطيني ، والإنحياز للقضية والشعب والارض حتى تبقى البوصله واضحة ، فالنضال رغم كل الظروف يجب ان لا يتوقف ، ويجب الخروج من مرحلة اليأس والإنكفاء على الذات ، فعدونا يحاول نهب الارض وتوسيع الاستيطان وتهويد القدس وتقويض مقومات الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس ، بينما تحاول الادارة الامريكية تفتيت المنطقة وزرع الفتنة وتفجير النزاعات وعزل كل قطر عربي عن الآخر بتقويض أركان قوميته ، ومحاصرة قضية العرب المركزية " فلسطين " من خلال طرح مشروع تصفوي بعد مفاوضات عقيمة دامت اكثر من اثنان وعشرون عاما ، وهذا يتطلب العودة بملف القضية الفلسطينية الى هيئة الامم المتحدة ومنظماتها المختصة،بما فيها محكمة الجنايات الدولية لوضع الاحتلال والاستيطان موضع المسائلة والمقاطعة والعقاب، ونيل العضوية الكاملة لدولة فلسطين وتوفير الحماية الدولية المؤقتة للشعب الفلسطيني من ارهاب الدولة ومستوطنيها تحت اشراف الامم المتحدة ، وعقد المؤتمر الدولي بحضور كافة الاطراف المعنية، لتنفيذ قرارات الشرعية الدولية ذات الصلة ، ورفض التفرد الامريكي الصهيوني على المستوى الدولي في معالجة القضية الفلسطينية.
وامام هذه الذكرى المجيدة التي تأتي مع الذكرى السنوية لغياب رمزا من رموز المقاومة والحركة الاسيرة الا هو الشهيد القائد سمير القنطار العربي اللبناني المناضل الذي اختار النضال من اجل فلسطين واحبه الشهيد القائد ابو العباس، كما اخوانه ورفاقه من المناضلين العرب، والذي كلل مسيرته بالشهادة، بعد ان صمد في زنازين الاحتلال ثلاثون عاما من الاسر، حيث احتل موقعا في جبهة التحرير الفلسطينية بعد ان انتخب عضوا في اللجنة المركزية، وفي عالم الكفاح التحرري، وخاصة ان الشهيد سمير حاول عبور الحدود الأردنية الفلسطينية لتنفيذ عملية فدائية لم تتكلل بالنجاح، حيث اعتقلته السلطات الأردنية، لكن سجنه لمدة ثمانية أشهر، لم يردعه السجن، وهو الشبل الذي لم يتجاوز الـ16 عاماً من عمره، بل كرر التجربة، حيث ركب موج البحر، وعبر إلى فلسطين، وقاد عملية مجموعة "جمال عبد الناصر" في نهاريا التي قُتل فيها 6 إسرائيليين، واستشهد إثنان من المجموعة الفدائية، بينما جرح وأُسر سمير ورفيقه "احمد الأبرص"، وفور تحرره اعلن خياره بالانتماء لحزب الله والمقاومة ،مؤكدا لم أعود من فلسطين إلا كي أعود إلى فلسطين، صحيح ان ثمة مناضلين يتحملون سنوات السجن، مهما طالت، ويصمدون أمام محنة السجن، مهما عظُمت، فأؤلئك هم صناع الثورة المحترفين وحراس قيمها الدائمين، الذين لا يرون فيها عملا يمكن انجازه في اوقات الفراغ، والشهيد سمير القنطار، واحد من هؤلاء المناضلين بامتياز، فترجم نضاله الحقيقي من خلال موقفه الثوري ، فشكل جبهة المقاومة في الجولان، وقام بعدة عمليات ليؤلم العدو، لذلك لم تكن الصواريخ بحاجة الى دليل كي تهتدي لشمس تسطع في سماء الكفاح لأجل فلسطين، بل كانت شمسه إغراء بالوصول اليها عبر مواجهة الاحتلال الصهيوني العدواني الذي يرفض التسويات، ويحترف الحروب، وجرائم الاغتيال. هذه حقيقة المناضل العربي سمير القنطار كي لا يُساءَ له ، على الأقل من بعضنا نحن الفلسطينيين، وخاصة من قبل بعض الإسلام السياسي والثورة المضادة ، لانه رمزا تربى وترعرع في صفوف جبهة التحرير الفلسطينية والثورة الفلسطينية.
واليوم فلسطين في ذكرى انطلاقة ثورتها تنتصر في الامم المتحدة منذ 36 عاماً،من خلال القرار الاممي في مجلس الامن الدولي بموافقة 14 دولة وامتناع الولايات المتحدة عن التصويت ،بعدم شرعية الإستيطان في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967،ودعوة حكومة الإحتلال الى وقف كافة انشطتها الإستيطانية في الضفة الغربية والقدس، فهذا القرار شكل انتصاراً للشعب الفلسطيني وقضيته ، حيث شكل نصراً وصفعة لدولة الاحتلال ولكل الطغاة المشوهين للقانون الدولي والعدالة والمتنكرين والرافضين دوماً لقرارات الشرعية الدولية،والعاملين على تكريس الإستيطان ونهب وسرقة الأراضي الفلسطينية، وهو اتى بعد الانتصار الاول لقرار "اليونسكو" باعتبار المسجد الأقصى مكان مقدس للمسلمين دون غيرهم من اتباع الديانات الأخرى،وبأنه معلم تاريخي وتراثي وديني وحضاري اسلامي، وغيرهما من قرارات الشرعية الدولية بالعشرات صدرت مناصرة للقضية الفلسطينية،وهي شكلت وتشكل خطوات مهمة في الإتجاه الصحيح،ويجب ان تكون حافزاً لمواصلة الضغط الدبلوماسي على كل الصعد لحمل دولة الإحتلال على تطبيق قرارات الشرعية الدولية ذات الصلة بالقضية الفلسطينية،وهنا لا بد من توجيه الشكر على هذا القرار الى(فنزويلا ،نيوزيلاندا،ماليزيا والسنغال) الذين ناصروا الحق الفلسطيني، لذلك علينا حماية هذا القرار والعمل على تفعيل اهتمام العالم بالقضية الفلسطينية كقضية مركزية،كما يجب تفعيل كل السفارات الفلسطينية من خلال التحرك على المستويات الرسمية والشعبية لفضح وتعرية الاحتلال وما يرتكبه من انتهاكات وجرائم بحق.
شعبنا الفلسطيني، وتجنيد أوسع رأي عام مناصر للقضية الفلسطينية، وبما يعمق من عزلة الاحتلال عالمياً ويفرض أوسع مقاطعة اقتصادية وسياسية عليه.
امام كل ذلك نتطلع الى كافة الفصائل والقوى ضمن اطار منظمة التحرير الفلسطينية ان تعطي الاهتمام لكل المناضلين، الذين انخرطوا في الثورة الفلسطينية وهم كافة الأقطار العربية ، فكانوا فلسطينيي الإنتماء، لأنهم عرب حقيقيون، جسدوا الموقف الشعبي العربي من قضية فلسطين وعروبتها، وقدموا حياتهم لأجلها، هم مناضلون آمنوا بعدالة قضية فلسطين، وضحوا لاجلها، فكان منهم من دخل المعتقلات، أو قضى شهيداً، فيما لا يزال كثير منهم منخرطين في الهم الفلسطيني، بهذا الشكل أو ذاك، حتى يومنا هذا، فهؤلاء يستحقون التكريم واوسمة الشرف.
ان ذكرى انطلاقة الثورة الفلسطينية تستدعي منا الوقوف امام ما يعانيه الشعب الفلسطيني في الشتات وتحديدا في مخيمات سوريا ولبنان، الذين قدموا الشهداء ورفعوا رايات الثورة الفلسطينية من اجل الحرية والاستقلال والعودة ، حيث يعاني الشعب الفلسطيني في مخيماته، من اوضاع عديدة وابرزها الحقوق المدنية والانسانية المحروم منها، و القوانين التي تمنعهم من العمل في عشرات الوظائف، اضافة الى سياسة الاونروا بتخفيض خدماتها من صحية اجتماعية ينذر بكارثة حقيقية مما يتطلب التحرك السريع للضغط على الامم المتحدة من اجل وقف اجراءات الاونروا لانقاذ الوضع الانساني داخل المخيمات ، وخاصة ان الاونروا هي الشاهد العيان على نكبة الشعب الفلسطيني والمسؤولة المباشرة على مساعدة اللاجئين حين عودتهم الى ديارهم التي شردوا منها وبالتعويض العادل لهم عما لحق من اذى على مدار سنوات التشرد.
ختاما : لا بد من القول علينا التمسك بالنهج النضالي الذي ارسيناه في منظمة التحرير الفلسطينية البيت المعنوي لكل الشعب الفلسطيني ، والخروج من المشهد السوداوي الذي نعاني منه جراء الانقسام ، وهذا يتطلب منا سلوك ينسجم مع ذاتنا ، ونحن على ابواب عقد دورة المجلس الوطني الفلسطيني الذي نتطلع اليه ان يكون جامعا لكافة أطياف الشعب الفلسطيني، من اجل رسم استراتيجية وطنية تستند لكافة اشكال النضال من اجل تحقيق اهداف الشعب الفلسطيني في العودة وتقرير المصير واقامة الدولة الفلسطينية المستقلة كاملة السيادة وعاصمتها القدس.
بقلم/ عباس الجمعة