التعثر في مجلس الأمن

بقلم: نوارة نجم


هناك مثل شعبي مصري يقول: بالمزاح تشتفي الأرواح".

ربما هذه هي الفلسفة المصرية التي ساعدت شعباً قديماً مثل الشعب المصري على الاستمرار، وإلا مات كمداً وحزناً وقهراً. فلو أن المصريين اتخذوا كل ما يحدث لهم وبهم وفيهم وعليهم بجدية لانقرض العنصر المصري من العالم. لذا قرر المصريون منذ آلاف السنين التعامل مع الكون أجمع بسخرية، فما نحن إلا موتى نمشي على أقدام، ولنا الصبر حتى نلقى الله، أو كما يقول محمد سعد في فيلم "تتح": ربنا يعدي الستين سبعين سنة دول على خير.

لذا، فإنني أنصح كل من يحكم مصر ألا يكثر من انتقاداته للسخرية المصرية، وأن يترك الناس وسخريتهم، فذلك له أفضل، وعليه آمن، وعاقبته ألين.. بدلاً من أن يتخذوا أفعاله بجدية فلا تحمد العقبى.

هاه؟ هذا السيل العارم من السخرية الذي انهال عقب التصرفات المرتبكة للوفد المصري بمجلس الأمن، هو الشفاء الوحيد للناس من الموت كمداً، أو الاستشاطة غضبًا.

 

ترتيب الأحداث المخل كما يلي:

-  إجتمعت المجموعة العربية لتتقدم مصر بمشروع لوقف الاستيطان، وقامت مصر يوم الأربعاء الموافق 21 كانون الأول/ديسمبر بتقديم المشروع. وهو مشروع ذو نبرة هادئة، يطلب وقف الاستيطان والكفّ عن التوسع فيه، ويعزي ذلك إلى أن الاستيطان لا يستند على أي سند قانوني.

-  بذلت إسرائيل مساعي عدة لاجئة إلى الولايات المتحدة لوقف القرار واستخدام حق الفيتو. حاول نتنياهو الاتصال بأوباما الذي لم يجب على مكالماته، فاتصل بترامب الذي حث الأمم المتحدة على رفض المشروع لإنه "غير عادل بالنسبة لإسرائيل"، فهو سيضعها في موقف ضعيف أثناء المفاوضات.

-  قالت السلطات المصرية إن ترامب اتصل بالرئيس المصري عبد الفتاح السيسي وطلب منه سحب المشروع.

-  اقترحت مصر سحب المشروع على المجموعة العربية التي رفضت بأغلبيتها، لكن مصر قامت بسحب المشروع في يوم 23 كانون الأول/ديسمبر وجاءت تبريرات الحكومية كما يلي:

إن الحل العادل والشامل للقضية الفلسطينية سينتج عن المفاوضات، لا عن قرار بمجلس الأمن، وقد علمنا أن إدارة أوباما تنوي عدم استخدام حق الفيتو نكاية في ترامب وانتقاماً من نتنياهو، مما سيكبل يد ترامب أثناء المفاوضات، وسيضر بالقضية الفلسطينية، خاصة أن إسرائيل لا تلتزم بقرارات مجلس الأمن، لذلك قررنا سحب المشروع. ثم أضافت أن سحب المشروع هو رؤية بعيدة وعميقة وأكثر شمولية للأمور وما إلى ذلك. طيب، إذا كان المشروع لا يهم، وقرارات مجلس الأمن لا تلزم إسرائيل، فلماذا تقدمت مصر بالمشروع؟

ولا أعرف لماذا تهتم مصر بعدم وضع نفسها في موقف أضعف أثناء المفاوضات؟

-  اجتمعت السلطة الفلسطينية بأربع دول هم السنغال وفينزويلا وماليزيا ونيوزلاندا وطلبت منهم تبني المشروع، لتمريره قبل يوم  20 كانون الثاني/يناير، وهو موعد تسلم ترامب لمهام الرئاسة، فوافقت الدول الأربع مشكورة، وتم التصويت على المشروع القرار بإجماع 14 دولة منهم مصر.

 - ألقى مندوب مصر في مجلس الأمن خطاباً يندد فيه بالمزايدين، ويذكر فيه دور مصر بالنسبة للقضية الفلسطينية.

في تلك الأثناء كان أداء اللجان الإلكترونية التابعة للنظام مثيراً للشفقة حتى البكاء.

في البداية قالوا إن مصر ستقدم مشروعاً تاريخياً، وإنها ستصفع إسرائيل، وأن المشروع الذي "كتبته مصر" سيخرس الألسنة التي تقول بموالاة النظام لإسرائيل.

ثم بعدها قالوا: نعم سحبنا القرار لإن ذلك من مصلحة مصر. وطفقت اللجان الإلكترونية تسب فلسطين، التي أولها فلس وآخرها طين، والشعب الفلسطيني الذي باع أرضه، ومصر التي قدمت تضحيات للفلسطينيين ولم يلحق بها سوى الأذى ونكران الجميل، وأنه لولا انشغال مصر بالقضية الفلسطينية لكانت مصر قطعة من أوروبا، ومصلحتنا أولى، ومصلحتنا أهم، ولماذا علينا أن نخسر ترامب من أجل فلسطين؟

ثم بعد التصويت على القرار كتبوا: نصر جديد للدبلوماسية المصرية، تمكنت مصر من صفع إسرائيل وترامب والتغرير بهم، وخداعهم في خطة سياسية مخابراتية دبلوماسية لوذعية عظيمة.

وكيف كان ذلك؟

لقد خدعت مصر ترامب ونتنياهو وأوهمتهم أنها سحبت المشروع، ثم اتفقت "سراً" مع الدول الأربع لتمرير المشروع، فمر المشروع وتم إدانة إسرائيل، من دون أن تضطر مصر لخسارة الإدارة الأميركية الجديدة!

وطبعا، هذا الكلام كتب على شبكات التواصل الاجتماعي وعلى المواقع الإخبارية المصرية باللغة العربية، وترامب يتحدث الإنجليزية ونتنياهو يتحدث العبرية، فأكيد يعني ما يعرفوش حاجة عن الخطة السرية دي... هم بيعرفوا عربي يعني؟

عقب التصويت على مشروع القرار، طلبت السلطة المصرية من جميع الأطراف عدم الهجوم على مصر.

ثم قامت إسرائيل بكدش شعرها على العالم، وظلت تتوعد، وتستدعي السفراء، وتسحب المعونات، ولله الحمد والمنة، كانت ليلة سوداء على الكيان الإسرائيلي.

وكادت أن تكون ليلة سوداء على المصريين لولا أننا نعالج أنفسنا بالنكتة.

ما هذا الهراء والارتباك والخزي والتعثر وافتقار المهارة وانعدام الكفاءة بحق السماء؟

لن أتحدث عن الخزي والعار الذي شعرنا به حين سحب الوفد الممثل لنا مشروعا لإدانة الاستيطان الإسرائيلي، مجرد طلب بوقف الاستيطان، ليس طلباً بإعادة الأراضي إلى أهلها، ولا حديثاً عن حقوق اللاجئين، ولا طلباً لتعويضات للمشردين وأسر الشهداء، مجرد طلب لوقف التوسع الاستيطاني! هذا الحد الأدنى من المطلب الإنساني لأناس يتم طردهم من بيوتهم ليبني المحتل فوق أطلال تاريخهم، بيوتاً لمهاجرين  يبنون "وطناً مستحدثاً" على أشلاء وطن قديم.

لكنني سأتحدث عن انعدام الكفاءة!

ما هذا؟

لنقل إن النظام المصري يريد التخلي عن القضية الفلسطينية برمتها، ويسعى خلف حلف مع الولايات المتحدة، ويكسب ترامب (العنصري) لصفه، ويحسن العلاقات مع إسرائيل، ويلقي بالقضية الفلسطينية جانباً، و"كفاية بقى"! ولا أعلم كفاية إيه؟ لكن كفاية. ولنقل إننا لا نعترض على ذلك، أو إننا نعترض و"نتفلق" ونضرب رؤوسنا في الحائط، هذا ما يريده النظام وهو ساري على رقابنا كما يسري على رقابنا كل قراراته دون الرجوع إلينا. أما من وسيلة لتنفيذ هذه الخطة تكون أكثر كفاءة وأقل إحراجاً لمصر في محفل دولي كمجلس الأمن؟

 

أحط لكم أنا خطة طيب؟

ماشي...

يعني مثلا... ترامب اتصل بالرئيس المصري وقال له بإن أوباما يريد أن يحرجني وينتقم من نتنياهو، ويضعف موقف إسرائيل في المفاوضات، وأنت ما يخلصكش، ونريد منكم سحب المشروع، ونعدكم بالذهب والياقوت والماس وأنهار من لبن وعسل مصفى، ولكم مصالح معنا، ودعكم من فلسطين ومن وجع الرأس الذي تسببه فلسطين، وكما يقول المثل المصري: اللي يصعب عليك يفقرك. وهاه؟

طيب.. هاه..

ماشي يا عم ترامب، أنت لك أكل ولا بحلقة؟ الحقيقة أننا لا نستطيع سحب المشروع بعد أن قدمناه لأن ذلك سيحرج مصر، ويفتح باباً للمزايدين، ويفقدنا مكانتنا في المجموعة العربية، ويفقد المواطنين الثقة في إدارتهم. لكن هناك طريقة لجعل مجلس الأمن يرفض التصويت على القرار... لن أسحبه، لكن لك ألا أمرره.

ومعك المشروع، يمكنك إضافة كل الألغام السياسية، وتزيد من حدة النبرة، وترفع سقف المطالب، حتى تضع كل الدول الأعضاء في موقف لا يسعهم معه إلا أن يرفضوا المشروع. وبذلك تكون قد قضيت لترامب حاجته، وفي ذات الوقت كسبت نقاطاً لدى الشارع الذي سينبهر من المطالب مرتفعة السقف، والنبرة النضالية التي يعج بها المشروع.

ستجد قلة قليلة جداً تكتشف هذه الخطة السامة، وستصرح بها: هو لغم المشروع عشان ما يتقبلش!

وستجد مئات بل آلاف من الممتعضين: أنتوا عايزين تنتقدوا وخلاص؟ ما أميركا طول عمرها بتستخدم الفيتو عشان تحمي إسرائيل... واحنا كاتبين مشروع بنطالب فيه بالحقوق الفلسطينية تقوموا تشككوا فينا؟

وهكذا سيمر الحدث مرور الكرام، وسيصمت المكتشفون للخطة أمام سيل الهجوم الذي سيتعرضون له.

لكن أن نظهر بهذا المظهر المخزي، ثم نصرح بأننا: نعم سحبنا المشروع حتى لا نخسر ترامب ونتنياهو؟

هكذا؟ بصراحة؟ هكذا؟

ما هذا الذي أكتبه؟

أنا والله لا أضع خطة لإجهاض الحقوق الفلسطينية، لكن الحرج والخزي الذي لحق بي كمواطنة مصرية يجعلني أجذب خصلات شعري حتى تخرج في يدي.

على أية حال... مبارك على تمرير القرار. وعذراً على ما حدث.

وهيا بنا نبحث عن آخر نكتة لنداوي بها أنفسنا الجريحة.

نوارة نجم
كاتبة وناشطة مصرية