... عن "القوة الناعمة" الفلسطينية

بقلم: أسامة مصالحة

يتوافر الفلسطينيون على ترسانة هائلة من القرارات الصادرة عن هيئات الأمم المتحدة المختلفة، بينما تتوافر إسرائيل على سياسة "أمر واقع" تجعل من تلك القرارات، فعلياً، حبراً على ورق. لا يهدف هذا القول إلى تسخيف أو تقزيم أو نزع الثقة عن الجهد الديبلوماسي المهم الذي يبذله الفلسطينيون في هيئات الأمم المتحدة المختلفة، بل يهدف إلى الدعوة إلى تطويره عبر رفده بـ "الديبلوماسية الشعبية".

وإذا كانت الديبلوماسية الرسمية التقليدية تحصر نشاطها في المجال الحكومي وشبه الحكومي والبرلماني والحزبي، فإن الديبلوماسية الشعبية تشتغل على نطاق جماهيري واسع يهدف الى التأثير في "الرأي العام" نفسه، في شكل مباشر، وذلك عبر تشكيل كتل متنوعة ضاغطة وداعمة داخل نقابات العمال، واتحادات الكتاب والصحافيين، والمؤسسات التعليمية والجامعات، وروابط المرأة والطفل ومؤسسات المجتمع المدني وغيرها.

وعلى خلاف الديبلوماسية التقليدية، التي تستخدم خطاباً قانونياً وسياسياً بارداً بين ديبلوماسيين محترفين يرتدون ربطات العنق، فإن الديبلوماسية الشعبية تشتغل بطريقة إبداعية توظف فيها الفنون والثقافة والرياضة لبناء جسور متينة مع فئات وطبقات شعبية متنوعة. ويندرج تحت مسمى "الديبلوماسية الشعبية" اختصاصات مثل الديبلوماسية الثقافية والديبلوماسية الرقمية. ويمكن اعتبار هذه الأخيرة ابنة القرن الحادي والعشرين بامتياز.

إن الإهمال الرسمي الفلسطيني للديبلوماسية الشعبية، التي تمثلت في حركات التضامن والمقاطعة، لعب دوراً لا يمكن إغفاله في وضع القضية الفلسطينية على رف النسيان والهامشية. هذا من جهة، أما من جهة ثانية، فالعمل الفلسطيني العشوائي والظرفي، الذي يرتكز على ردود الأفعال الآنية، وغياب إستراتيجية واضحة، كان مسؤولاً عن تقويض وإفراغ ما تبقى من زخم في الدعم الشعبي الدولي المساند للحقوق الفلسطينية.

ولايجب، هنا، تجاهل، أو التقليل، من شأن وأهمية ونفوذ النشاط الداعم لإسرائيل. فإسرائيل تتوافر على "قوة ناعمة" لا حدود لها، تبدأ من صالونات الفكر والسياسة والفلسفة والفنون والسينما ولا تنتهي عند شركات "الهاي تك" وتصدير الخبرة الأمنية وتجارة الماس. وهذا أمر يرتبط بخلفيات تاريخية معقدة استثمرتها إسرائيل: فإذا ما أخذنا بلداً كهولندا مثلاً، فقد يتفاجأ المرء بحقيقة أن النـــفــوذ اليــهودي فيها يعود الى حقبة سقوط الأندلس، أي إلى القرن الخامس عشر، عندما لجأ جزء من اليهود الى هولندا إثر "محاكم التفتيش"، أي في ذاك الوقت الذي كانت فيه هولندا البروتستانتية في حرب ضروس ضد اسبانيا الكاثوليكية في ما عُرف بـ "حرب الثمانين عاماً".

وتشير بعض الدراسات التاريخية الى تعاون رأس المال اليهودي والهولندي في تأسيس أول مستوطنة هولندية في أميركا، وهي ما عرف لاحقاً باسم نيويورك.

ولا أزال اذكر أنه في أحدى زياراتي الرسمية، حيث نزلت ضيفًاً على وزارة الخارجية الصينية، تم ترتيب رحلة الى مدينة شنغهاي، قلب الصين الاقتصادي، حيث أخبرني أحدهم أنه قد يبدو من غير المتوقع أن يعرف المرء أن هناك جالية صينية يهودية غنية ذات تأثير اقتصادي مهم في تلك المدينة الدينامية.

إن فتح القوس السابق للإشارة الى نوع وحجم النفوذ اليهودي حول العالم يهدف الى أن تؤخذ في الاعتبار الخريطة السياسية للقوى المحلية في معظم بلدان العالم. وهذا يدعو صانعي استراتيجيات الديبلوماسية الشعبية الفلسطينية، إن وجدوا، الى ضرورة التفكير في فتح حوار مع تلك الجاليات اليهودية وعدم اقتصار التواصل على الشعوب المعنية وحدها. ومن الخطل الاعتقاد بأن دعاة "إسرائيل الكبرى" هم من يمتلكون اليد العليا بين كل الجاليات اليهودية في العالم.

يمكن ذكر مجموعة "جي ستريت" الأميركية اليهودية المشتركة في أميركا والتي تلعب دوراً محورياً بارزاً يناهض سياسة اليمين الإسرائيلي المتطرف وتضم أصواتاً وشخصيات رفيعة المستوى، منهم وزراء وسفراء إسرائيليون سابقون، وكتاب وأدباء وأعضاء كونغرس وباحثون وغيرهم.

من المؤكد أنه ليس هناك مردود سريع للديبلوماسية الشعبية، فهي عمل تراكمي طويل ومعقد ويحتاج الى الرفد الدائم بالكفاءات ذات الإمكانيات الفكرية العالية القادرة على التواصل وبناء الجسور.

وفي النشاط الفلسطيني الحالي ثمة فجوة كبيرة تفصل بين الديبلوماسية التقليدية والديبلوماسية الشعبية. وإذا ما استمر هذا التراخي والإهمال في جَسر الفجوة بين الديبلوماسيتين فإن كل هيئات الأمم المتحدة (وقد عملت أنا شخصياً، كديبلوماسي، في صياغة بعض القرارات الصادرة عن بعض هيئاتها حول القضية الفلسطينية) لن تستطيع أن تُعيد حقاً، أو أن تُطلق أسيراً، أو أن ترفع حاجزاً عسكرياً، أو أن تزحزح حجراً واحداً من مكانه في أية مستوطنة هامشية صغيرة في الضفة الغربية.

أسامة مصالحة 

* كاتب فلسطيني