كشفت صحيفة "يديعوت أحرنوت" عن كواليس وخفايا الضربة العسكرية الإسرائيلية، للمفاعل النووي السوري، في دير الزور عام 2007، والفشل الذريع الذي منيت به أجهزة المخابرات الاسرائيلية، وحتى الأميركية، على مدار سنوات عدة، في الوصول لمعلومة عنه، وعن الطاقم الذي يعمل على بنائه.
وأقرَّت الصحيفة في تحقيقٍ مطول لها، أنه "منذ عدة سنوات، لم تكن لدى إسرائيل أية فكرة عما يحدث في بناية معزولة في دير الزور".
ونقل معد التحقيق الصحفي الإسرائيلي رونين بيرغمان، عن أحد رؤساء أجهزة المخابرات السابقين قوله: "إن حقيقة أن إسرائيل لم تعرف أن المفاعل السوري يبنى، هو فشلٌ يعادل فشل مفاجأة حرب تشرين للمخابرات الإسرائيلية".
وسلط التحقيق أضواءه على "الرجل الغامض" اللواء محمد سليمان، والذي كان اسمه وظهوره سريًا حتى موته، وبالرغم من كونه لواء إلا أنه مهندس من خريجي جامعة دمشق، تلقى دورات تكنولوجية وعسكرية عديدة في الاتحاد السوفييتي السابق، وكان رجلًا ذا "مواهب متطرفة"، على حد وصف الصحيفة.
ولتجنب مراقبة المخابرات الإسرائيلية الدائمة – كما أورد التحقيق - استمر اللواء سليمان في مهماته السرية من خلال غرفة عمليات، وجهاز بيروقراطي، مفصولين عن مؤسسة الدفاع السورية. وحينما اكتشفت إسرائيل نشاطه متأخرة أطلقت شعبة الاستخبارات في الجيش الإسرائيلي على ما يقوم به اسم: "جيش الظل".
ونوهت الصحيفة إلى أن اللواء سليمان أعطى تعليماته لرجاله بأن يرسلوا أي رسالة مهمة، أي خطة، فقط في مظروف مغلق ومختوم بالشمع الأحمر، ومن خلال استخدام شبكة موصلين يستخدمون الدراجات النارية، نجح ذلك، فقد كانت كل عملياته مخفية عن إسرائيل ومخابراتها رغم كل المصادر الهائلة، التي استثمرت لضمان ذلك، لكنها لم تصل لشيء مهم.
ووفقًا للتحقيق الإسرائيلي فإن اللواء سليمان حافظ على "السر الأعظم" لكل ما هو في دير الزور، هذه البقعة البعيدة المعزولة، حيث كان البناء يجري على قدم وساق في المفاعل النووي المشترى من كوريا الشمالية، والممول من إيران، لافتًا إلى أن "هناك خلاف لا زال قائمًا بين المخابرات الإسرائيلية والأميركية فيما إذا استخدمت الأموال الإيرانية في شراء المفاعل".
ونوه إلى أن مثل هذا المفاعل يمكن أن ينتج البلوتونيوم لقنبلة نووية، حيث يعتقد بشار الأسد أنها يمكن أن تساعد سوريا في الوصول إلى التوازن الاستراتيجي مع إسرائيل، مشيرًا إلى أن مشروع المفاعل كان سريًا جدًا حتى أن رئيس أركان جيشه علي حبيب، لم يكن يعلم أي شيء عنه، وحين سمع أن إسرائيل هاجمت موقعًا في المنطقة فكر أنهم أخطأوا الهدف.
وتعود "يديعوت" إلى محطات تاريخية منها أنه في عام 1991 عقد الرئيس السوري حافظ الأسد اتفاقية تحالف عسكرية مع كوريا الشمالية، اشترى بموجبها صواريخ كما اشترى معلومات عن كيفية تطوير وإنتاج صواريخ متطورة.
وطبقًا للصحيفة "لقد نظر الأسد الوالد إلى هذه الترسانة كقوة موازنة للسلاح النووي الذي تملكه إسرائيل، في حين أن المخابرات الإسرائيلية اعتقدت أن القيادة السورية فكرت في أن أسلحتها الكيماوية تكفي للحفاظ على توازن القوى، وأن دمشق لا تنوي الحصول على النووي".
وأضافت "برزت احتمالية لدى الأسد الأب لشراء مفاعل نووي من كوريا الشمالية، والذي يمكن أن ينتج درجة عسكرية من البلوتونيوم الذي يستخدم في صنع قنبلة نووية. فوقع الأسد فعليًا عقدًا مع الكوريين الشماليين لبناء المفاعل، لكن انجاز البناء كان على مستوى متمهل".
ولفت التحقيق الإسرائيلي إلى أن المعرفة بأن سوريا كانت في مراحل متقدمة في مشروع نووي، وجّه ضربة صعبة للمخابرات الإسرائيلية.
وأشارت "يديعوت" إلى أن نقطة الانعطاف عندما استطاع جهاز "الموساد" الحصول على صور كان رئيس هيئة الطاقة النووية السورية إبراهيم عثمان يحملها معه في رحلة إلى أوروبا، حيث أشارت صحيفة "دير شبيغل" الألمانية إلى أن "الموساد" استطاع أن يحصل على الصور من عثمان في لندن، بينما ذكرت صحيفة "نيويوركر" الأميركية أن ذلك حدث في فيينا.
ما سبق حدا برئيس حكومة الاحتلال الاسرائيلي الأسبق أيهود أولمرت ليقول: "إن داغان قد جاء إليه بمواده (الصور)، وكان وقعها كالزلزال، وتأكدت أنه من الآن فصاعدًا فإن كل شيء مختلف".
وأشار التحقيق إلى تقرير أعده الصحفي ديفيد ماكوفسكي في صحيفة "نيويوركر" يفيد بأن أولمرت أعطى تعليماته بإرسال وحدة عمليات خاصة تصل إلى حدود كيلومتر واحد من المفاعل لجمع التربة، وجلب الماء، وعينة من الخضار، والتي ستساعد في تقرير فيما إذا كان المفاعل قد باشر عمله، ولإجراء فحوصات حول الوضع الأمني في المنشأة. كما أرسل أولمرت في نفس الوقت رئيس جهاز "الموساد" مائير داغان مع مدير ديوانه يورام تيربوفيتش، ومستشاره السياسي شالوم ترجمات، إلى واشنطن لتقديم معلومات إلى البيت الأبيض و"سي.آي. إيه".
وأفادت الصحيفة بأن أول مهمة أعطاها رئيس جهاز "سي.آي. إيه" ميخائيل هايدن، لخبرائه كانت هي التأكد من الصور، ليس لكونه يشك في دقة فحص "الموساد"، ولكن لأنه لا يعلم من أين حصلت إسرائيل على الصور، كما أصدر تعليماته للخبراء لبذل أي جهد للتقرير بشأن حقيقة الصور.
وتشير "يديعوت" إلى أن خبراء هايدن شكوا في البداية في إحدى الصور، بعد تكبيرها وفحصها، وفكروا أن الكتابة المرسومة عليها يمكن أن تكون عمل فوتوشوب. لكن باقي الصور نجحت في الاختبار الدقيق، وثبت أنها أصلية!.
ويتحدث التحقيق الإسرائيلي أنه تم توجيه دعوة للجنرال هايدن إلى البيت الأبيض للقاءٍ طارئ، بعد تلقي بوش معلومات حول الموضوع، وبينما تجمع المسؤولون بانتظار الرئيس، توجه هايدن إلى نائبه ديك تشيني، والذي كان قد ردد أن سوريا تحاول الحصول على سلاح نووي منذ زمن طويل، وهمس في أذنه : "كنت على حق دائمًا".
وكشف الجنرال هايدن عن تشكيله "فريقًا أحمرًا" لديه تعليمات لبناء نموذج حالة بديلة تكون فيها المنشأة ليست مفاعلًا نوويًا. ولم يسبق للفريق المعرفة بالعمل المخابراتي بشأن المفاعل السوري، وقدمت إليه كل المعلومات، وبعد فحص سري ومن خلال التحقيق خلصوا إلى النتائج التالية: "إذا لم يكن مفاعلًا نوويًا يمكن أن يكون مفاعلًا مزيفًا". بمعنى آخر: "خطة سورية تحاول أن تظهر المبنى وكأنه مفاعل نووي، طبعًا مثل هذا الشيء غالبًا غير صحيح"، لكن "الفريق الأحمر" خلص إلى الاستنتاج السابق بأن ما يبنى في دير الزور هو بالفعل مفاعل نووي.
ونوه التحقيق إلى أنه في لقاء بين أولمرت وبوش وكما يروي الأخير في مذكراته، طلب أولمرت من الأميركان قصف المفاعل السوري، ولما عاد إلى إسرائيل قدم رئيس الوزراء الإسرائيلي تقريرًا لمجموعة صغيرة في "الكابنيت" تفيد بأن بوش في طريقه لقصف المفاعل.
التحقيق الإسرائيلي أشار إلى توصية داغان بتنفيذ القصف بسرعة خاطفة، وقبل أن يصبح عاملًا، وتدميره حينها سيؤدي إلى تلوثٍ اشعاعي. أما هايدن فقال: "إن داغان كان صلبًا في موقفه، بأن إسرائيل لا تقبل وضعًا تكون فيه "دولة عدوة" ممتلكة للسلاح النووي".
ونقلت الصحيفة عن هايدن قوله بأن "داغان حاول إقناعه أن يذهب بالمعلومات إلى المكتب البيضاوي، وأن يقنع الرئيس جورج بوش بإرسال قاذفة B2 لتدمير المفاعل"، فيما حذر الخبراء الأميركيون من أن تفجير هذا المفاعل يمكن أن يقود إلى حرب لا تعرف نتيجتها.
وروى الجنرال هايدن كل لحظة في إحدى أكثر الأحداث دراماتيكية ذلك الوقت، مع بوش، ومع أولمرت، وما تم بينه وبين داغان كرئيسي جهازي مخابرات، حيث أشار الصحفي بيرغمان الى أن يعد سيرته الذاتية "اللعب على الحافة"، والتي تحتوي فصلًا عن اكتشاف وتدمير المفاعل.