من عصافير ماو تسي تونغ إلى صحراء بن غوريون: الطبيعة اقوى!

بقلم: عماد شقور

يتندر بعض الذين تابعوا "الثورة الثقافية" ومرحلة "الكتاب الاحمر" في الصين، خلال العقد الاخير من حياة زعيمها الراحل، ماو تسي تونغ، انه امر المزارعين الصينيين بطرد العصافير من حقول الارز التي يفلحونها. كان الهدف من القرار توفير الكميات الكبيرة التي تأكلها العصافير من ارز تلك الحقول. وانتشرت في وسائل إعلام ذلك الزمان صور لآلاف الصينيين يحملون اطباقا وطناجر من الالومنيوم ويصدرون بطَرْقِها اصواتا مزعجة ابعدت ملايين العصافير عن حقولهم. إلا ان فرحة ماو تسي تونغ والصينيين بهذا "الانجاز" لم تتم، حيث تفاجأوا في الموسم التالي ان القوارض اشد فتكا بالمحاصيل الزراعية من تلك العصافير التي كانت تقتات بتلك القوارض اساساً، اضافة لما تأكله من الارز، وان وجود تلك العصافير نعمة لا نقمة، لانها "ارحم" بالمحاصيل من تلك القوارض الشرهة. اعترف الصينيون بخطئهم في "اعلان الحرب" على الطبيعة وقوانينها، وبادروا إلى "استرضاء" العصافير واستدراجها لإعادة الوضع إلى ما كان عليه، ونجحوا في انجاز ما سعوا إلى تحقيقه.
اسرائيل ليست كذلك. لم تصلها، على ما يبدو حكمة "اطلبوا العلم ولو في الصين". ولهذا لم تتعلم من حكمة الصينيين المتمثلة بالتواضع في التعامل مع كل ما في الطبيعة، فراحت اسرائيل تعالج ما ارتكبته ضد طبيعة فلسطين من خطأ يلامس الجريمة، بمسلسل من اخطاء، اكثر فداحة.
الخطأ الأول الذي نحن بصدده، (او قل "الخطيئة الاصلية" بلغة كتب التعاليم الدينية المسيحية)، كان قبل خمسين سنة، هو تحويل مجرى نهر الاردن ابتداءً من بحيرة طبريا، وضخ اكثر مياهه وبعضا من مياه البحيرة إلى "وسط البلاد" ووصولا إلى صحراء النقب. وقد زيّنت حكومة دافيد بن غوريون، وحكومة وريثه في المنصب، ليفي اشكول، هذه الجريمة ضد الطبيعة، بانها تهدف إلى ارواء صحراء النقب وتحويلها إلى جنائن وحدائق واراض زراعية خضراء، وجعلت من هذا الهوس "حلماً صهيونياً" تُحققه اسرائيل على ارض الواقع، وراحت تغلف هذه الحماقة باوراق ملونة لامعة، وتعممها في الإعلام الاسرائيلي والاوروبي والأمريكي، لتبدو وكأنها تبني وتزرع وتعمم الخير في "ارض الميعاد"، في حين ان الحقيقة الساطعة الوضوح هي انها تدمر الطبيعة في منطقة طبريا وبحيرتها وبكل ما هو جنوبها: من غور الاردن في ضفتيه، الغربية والشرقية، وكل آباره الجوفية، وصولا حتى البحر الميت.
هذا الخطأ/الهوس/الحماقة/الجريمة الاسرائيلية، تعمل اسرائيل هذه الايام على معالجة ما تسبب به من كوارث. ولكن اسرائيل تبقى كما نعرفها: تعالج كل خطأ ترتكبه بخطأ مثله او يزيد.
آخر ما تزود به وسائل الإعلام الاسرائيلية جماهيرها به، على هذا الصعيد، انها بدأت بتنفيذ مشاريع ضخمة لتحلية المياه في "وسط البلاد"، ولضخها من هناك، بانابيب ومضخّات ضخمة، إلى بحيرة طبريا !!!.
جدير بنا هنا تسجيل بعض الحقائق التي تهمنا على صعيد المياه في اسرائيل: بلغت كمية المياه للاستهلاك المنزلي فقط، (أي دون ما يستهلك في مجالَي الزراعة والصناعة)، في اسرائيل في السنوات الاخيرة، ما يساوي 800 مليون متر مكعّب، مصدر 600 مليون متر مكعب منها هو محطات تحلية مياه البحر، و200 مليون متر مكعب من بحيرة طبريا اساساً، ومن احواض مياه جوفية صالحة للاستهلاك المنزلي جزئياً، ومن بعض مصادر صغيرة متفرقة اخرى.
من هذه الجملة/الفقرة المعترضة، نعود إلى ما نحن بصدده. فنقول: عُقدت في جامعة تل ابيب قبل ايام ندوة دراسية حول مسألة المياه في اسرائيل، حضرها وشارك في نشاطاتها ومناقشاتها مسؤولون في سلطة المياه في اسرائيل، ومسؤولون في شركة "مكوروت" المسؤولة عن كل قضايا المياه هناك، وباحثون وعلماء ومهندسون ومهتمون بقضايا الناس والمجتمع. ورشح من هذه الندوة حقائق مذهلة، منها:
ـ أن ما تبخّر من مياه بحيرة طبريا بفعل الشمس والحرارة عام 2013، اكثر مما دخلها من ماء.
ـ أن معدل ما كان يُضخ من مياه نهر الاردن وبحيرة طبريا في السنين الاولى لتفعيل مشروع تحويل مجرى نهر الاردن سنويا هو 230 مليون متر مكعب من المياه، وان هذه الكمية تقلّصت مؤخراً لتصبح 25 مليون متر مكعب سنويا فقط، وليس لأن ذلك ممكنا، بل لأن ذلك ضروريا للحفاظ على الانابيب والمضخات والاجهزة والمعدات التي تم تصميمها للصيانة.
ـ أن استقرارالمياه داخل الانابيب يتسبب في انخفاض جودتها وتلوثها بالجراثيم، الامر الذي يستدعي معالجتها وتحمُّل تكاليف باهظة.
ـ أن الدراسات التي تجريها الجهات المختصة، تتركز على تزويد بحيرة طبريا بـ 100 مليون متر مكعب من المياه المُحلّاة سنويا، ليرفع ذلك مستوى مياه البحيرة 70 سنتيمترا، بهدف ابقاء وضع البحيرة على ما هو عليه، ومنع استمرار تدهور الحالة في البحيرة ومحيطها وفي الاحواض الجوفية في المنطقة التي تزداد الملوحة فيها إلى درجات مقلقة.
ـ أن محطات تحلية مياه البحر في "وسط البلاد"، تنتج 580 مليون متر مكعب سنويا، وان هذه الكمية تكفي الاحتياجات الحالية بصعوبة، ولهذا فانه لا بد من اقامة محطات تحلية اضافية، وخلال فترة وجيزة، لضمان بقاء الوضع على ما هو عليه.
ـ أن الدراسات في هذه المرحلة تتركز على وضع الخرائط لمد انابيب نقل المياه المحلاة من "وسط البلاد" إلى بحيرة طبريا، باتجاه معاكس، وفي بعض المناطق موازٍ تماما، للانابيب التي تم مدها قبل خمسين سنة، لنقل المياه من بحيرة طبريا إلى "وسط البلاد" والنقب (!!!)، في اطار تحويل مجرى نهر الاردن، تحت اسمه الاسرائيلي: "مشروع المياه القُطري".
ـ انه تم مؤخرا التسريع في الاجراءات الخاصة باقامة محطة تحلية المياه الجوفية في كيبوتس كفار مساريك القريب من عكا، بعد ان كانت التراخيص والاجراءات متعثرة عشر سنين لاسباب بيروقراطية. وتم بالفعل بدء انتاج المحطة في الشهر الماضي.
وذكرت المصادر الاسرائيلية ان هذه المحطة التي بلغت تكلفة انشائها 150 مليون شيكل اسرائيلي، (يعادل الدولار 3.8 شيكل)، وان طاقته الانتاجية من خمسة إلى ستة ملايين متر مكعب سنويا، سيتم ضخها على مدى 15 سنة إلى بحيرة طبريا، وان سلطة المياه الاسرائيلية الزمت شركة مكوروت بشراء هذه الكمية بسعر شيكلين اثنين للمتر المكعب. لكن المفارقة هي ان مصدر هذه المياه المحلاة هما بئران جوفيان درجة الملوحة فيهما مختلفة ومتغيرة، وان تلك الحقيقة تجعل عملية تحلية هذا النوع من الماء معقدة جدا، مقارنة بتحلية مياه البحر ذات المواصفات الثابتة. إلا ان التخريج الاسرائيلي لهذه الحماقة ايضا، يتم بتغليفها باوراق زاهية ولامعة، عندما يعلنون بنشوة: "سيتم استخلاص 85٪ من مياه البئرين كمياه محلاة، واما الـ15٪ الباقية فيتم ضخها لبرك تربية الاسماك"(!)، وكأنه لا ماء في بحر عكا.
ما تقدم ليس طرفة طويلة. انه حقيقة معلنة في مصادر اسرائيلية جدية، رغم انها تذكِّر بالمسرحية الساخرة، التي يعالج "العقلاء" فيها حفرة في الطريق، تتسبب بحوادث سير متكررة واصابات، ليس بردم الحفرة، وانما ببناء مستشفى، قريبا منها لمعالجة المصابين.

عماد شقور

٭ كاتب فلسطيني