يجب خفض سقف التوقعات من "مؤتمر باريس" للسلام، فهذا المؤتمر، كما صرح السفير الفرنسي في إسرائيل، "لا يحتوي أفكاراً جديدة في شأن كيفية حل الصراع في الشرق الأوسط، لكن الغرض الأساسي له يأتي بهدف منع هذه القضية من الاندثار في ظل الأزمات العالمية الأخرى".
لفرنسا، عند عموم الفلسطينيين، رصيد من المصداقية والاحترام والفضل، ذلك أن الموقف الفرنسي دائماً ما تباين عن نظيره الأميركي المنحاز. ولا يزال الفلسطينيون يتذكرون أن فرنسا هي التي دعت الدكتور جورج حبش الى التداوي في مستشفياتها سراً، وهي التي أجلت الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات على متن سفينة تحمل العلم الفرنسي من طرابلس، أثناء وقوعه تحت الحصار، وهي التي شرعت أبواب مستشفى بيرسي العسكري أمامه للعلاج وشرّفته، لاحقاً، بتأبين يليق بالرؤساء الكبار.
غير أن هذا لا يلغي حقيقة "العلاقة الخاصة" التي تربط فرنسا بإسرائيل.
ففرنسا هي التي رعت عملية بناء المفاعل النووي الإسرائيلي، وهناك ما يقارب ربع مليون إسرائيلي يحملون الجنسية الفرنسية، ونصف مليون يهودي يقيمون في فرنسا ويتمتعون بوزن سياسي واقتصادي وفكري مؤثر.
لكن لفرنسا، أيضاً، مصالح حيوية في المنطقة الممتدة من غرب أفريقيا الى الشرق الأوسط، وهي لا تزال تحافظ على وجود عسكري لافت في كل من جيبوتي والنيجر والتشاد ومالي، وهذه الدول الأربع تحيط بالمنطقة العربية، من جهتها الأفريقية. ولقد ذهبت فرنسا، أخيراً، الى التدخل في شكل عسكري ثقيل، في الصحراء الكبرى، التي تخترق ليبيا والجزائر وموريتانيا، وأسست قاعدة "ماداما" العسكرية الضخمة في قلب الصحراء الكبرى لمواجهة توسع "بوكو حرام" والجماعات المتشددة في شمال أفريقيا.
وإذا كان المشروع "البونابرتي" القديم المتمثل في ضرورة امتلاك فرنسا "مجالاً حيوياً" يمتد من أقصى المغرب العربي حتى جبال اللاذقية قد دفن على يد الديغولية، فإن اهتمام فرنسا بالتمتع بنفوذ سياسي داخل جغرافيا ما يسمى "التركة الكولونيالية" لا يزال قائماً لم يمت.
ومن المعروف أن الفرنسيين كانوا قد طالبوا، أثناء الإعداد لاتفاق "سايكس – بيكو – سازانوف" بوضع "كل البلاد السورية"، أو ما أسموه "فرنسا الشرق الأوسط"، بما فيها فلسطين، تحت الانتداب الفرنسي، لما لتلك البلاد من علاقة وطيدة بفرنسا "منذ أيام الصليبيين".
وهناك منهم من ارتأى أنه لا يجب أن يكون مسموحاً أن تصبح "بلاد المسيح" فريسة "الهرطقة اليهودية والأنغلو – ساكسونية"، وأنه "سيكون عاراً وطنياً وجريمة لا يمكن تلافيها إذا لم ننقذ هذه الأرض المقدسة من الجشع الوحشي لحلفائنا".
غير أن الزمن تغير ويد فرنسا غير طليقة في المنطقة، وهي لم تعد تحمل الطموحات القديمة نفسها. ففرنسا الحديثة بالكاد تسعى الى إحياء مشروعها المسمى "الشراكة الأورو متوسطية"، الذي يحلم بتحويل البحر الأبيض المتوسط الى "بحيرة سلام" تعمل الدول المتشاطئة فيه على محاربة الإرهاب والحفاظ على البيئة ومواجهة الجريمة المنظمة ومنع تدفق اللاجئين.
تخشى فرنسا، ومعها الاتحاد الأوروبـي، أن يــنــفــجر "البركان الفـلسطيـنــي" مــجدداً، فـــحبـوب المهدئات لم تعد تجدي نفعاً مع قيام إسرائيل بسحب الأرض من تحت أقدام الفلسطينيين شبراً شبراً وذراعاً ذراعاً. وقد يبدو "مؤتمر باريس" عودة الى مربّع "مؤتمر مدريد"، وقد يبدو احتفالياً وكرنفالياً. وهذا ليس خاطئاً بالكامل. فلم تعد فرنسا قادرة على لعب دور مقرر في المنطقة، وربما كان جل همها قلب "ساعة الرمل" مجدداً، أي ملء حالة الفراغ السياسي بمسار جديد، يمنح الفلسطينيين أملاً، أو وهماً، بأن الدولة "على مرمى حجر"، كما كان الرئيس الفلسطيني الراحل يحب أن يردد.
وحتى مجيء تلك الدقيقة التي تنقضي فيها الساعة، تكون المعادلات قد تغيرت مجدداً، ويكون الله قد خلق أمراً كان مفعولاً.
أسامة مصالحة
* كاتب فلسطيني