"دفاعا عن الصاروخ"

بقلم: علي الصالح

"دفاعا عن الصاروخ" اسم لفيلم وثائقي قصير جدا من إخراج الفرنسي مارتن جينيستي، يحاكي فيه "صعود وسقوط عملية السلام في منطقة الشرق الأوسط" بالصورة فقط. هكذا يصفه موقع "الانتفاضة الإلكترونية".
فيلم يخلو من الكلمات، ويعتمد على ما سمي "الصور الإخبارية" في سرد على وقع السيمفونية السابعة لبيتهوفن، "الصعود إلى الهاوية" لعملية السلام في الشرق الأوسط، ذلك الصعود الذي أدخل منظمة التحرير الفلسطينية والحركة الوطنية الفلسطينية بالمجمل، في ظلمات اتفاق اوسلو في "عرس دولي" لم يشهده أي اتفاق سلام من قبل، ولا حتى اتفاقيات استسلام ألمانيا لدول التحالف في الحربين العالميتين الأولى والثانية، كما لم يحظ به حتى اتفاق السلام بين فيتنام الشمالية والولايات المتحدة، الذي وضع أوزار حرب راح ضحيتها الملايين من البشر.
أنتج الفيلم عام2015 وعرض في العديد من مهرجانات الأفلام في العالم خلال الشهور القليلة الماضية، منها مهرجان الفيلم الوثائقي الدولي في امستردام في هولندا، ومهرجان "هوت دوكس" الكندي وسراييفو في البوسنة، وكذلك ميلان في ايطاليا.
ويعتبر عنوان الفيلم، الأكثر إثارة للجدل، والأكثر استفزازا للناس، وهذا هو المطلوب كما يقول المخرج لموقع الانتفاضة الالكترونية، الغرض من الفيلم استفزاز الليبراليين الغربيين، ليس بهدف تأييد المقاومة المسلحة أو التحريض على العنف، بل لوقف نقاشاتهم حول استخدام العنف. وفي النهاية فهم ليسوا من يقرر كيف يقاوم الفلسطينيون الاستعمار والاحتلال.
والفيلم أيضا محاولة لتسليط الضوء على الرياء الغربي والدولي، في ما يتعلق بالمقاومة المسلحة للاحتلال التي تكفلها القوانين الدولية، فيتفقون على تأييدها في كل بقاع العالم، ويختلفون حولها عندما تتعلق بفلسطين واسرائيل.
فيلم "دفاع عن الصاروخ" يتحدث عن سياسة السلام الفلسطينية خلال السنوات العشرين الاخيرة، التي وصلت في النهاية إلى نتيجتها الحتمية، وهو أيضا محاولة لإعطاء بعض المنطق والبعد التاريخي لما تقوم به المقاومة الفلسطينية. "فيلم عاطفي استفزازي يسكن داخل مشاهده، لذا لا بد أن يصل لجمهور واسع، خاصة أولئك الناس الذين لا يقدرون أهمية المقاومة للشعب الفلسطيني"، هكذا يصفه أحد مشاهديه.
يبدأ الفيلم بصورة فوتوغرافية للرئيس الراحل ياسر عرفات في صباه المبكر مرتديا بدلة وربطة عنق، قبل أن تتلاشى تدريجيا امام صورة له تعود لسبعينيات القرن الماضي بلحيته غير الكثة، صورة لعرفات المقاتل وزعيم الثورة، بزيه العسكري البسيط والكوفية الفلسطينية ونظارته السوداء، ومن خلفه وحوله حراس ومقاتلون يمتشقون رشاشات الكلاشينكوف الروسي الصنع الأشهر في العالم.
وتدريجيا تغيب صورة عرفات المقاتل لتحل محلها صورة عرفات السياسي ببدلته العسكرية الأنيقة والكوفية التي تتخذ شكل خريطة فلسطين امام مرآة في جناحه في فندق، واعتقد إذا لم تخن الذاكرة، في أحد فنادق لندن، حيث التقيته خلال زيارته الاولى للعاصمة البريطانية التي انفتحت أمامه بعد توقيع أوسلو.
وفي حركة ذات مغزى تتباطأ حركة الصور عند المصافحة التاريخية التي تمت مباشرة بعد انتهاء توقيع اتفاق اوسلو في ذاك اليوم المشمس من شهر سبتمبر 1993، في حديقة الورود في البيت الابيض، أمام زعماء وكبار المسؤولين في العالم، وعدسات الكاميرات، تلك المصافحة بين عرفات ورئيس الوزراء الاسرائيلي اسحق رابين الذي اغتيل لاحقا في الميدان الرئيسي وسط تل ابيب برصاص متطرف يهودي لـ(تفريطه بأرض إسرائيل). ولم يكتف المخرج بصورة واحدة، بل قدم اربع صور للمصافحة التي كانت تحت رعاية الرئيس كلينتون، الذي كان يحيطهما بذراعيه وكأنه يدفعهما دفعا للمصافحة.
وللتذكير فقط فإن عرفات ورابين لم يوقعا شخصيا على الاتفاق، بل وقعه عرابا اوسلو، محمود عباس عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية وشمعون بيريز وزير الخارجية الاسرائيلي في حينها.
وتمر الصور متسارعة لعرفات مع رؤساء وزعماء من شتى دول العالم، بدءا بالولايات المتحدة غربا، مرورا بدول اوروبا الغربية وانتهاء بروسيا شرقا، ومن فنلندا شمالا وحتى جنوب افريقيا جنوبا. وفجأة تتباطأ مجددا ليقدم المخرج وبحركة بطيئة أيضا مجموعة من صور الانتفاضة الثانية التي جاءت تعبيرا عن حالة الاحتقان والاحباط التي عاشها ويعيشها الشعب الفلسطيني، بسبب فشل المرحلة الاولى مما يسمى إعلان المبادئ المؤقت، الذي كان يفترض أن يكون قد انتهى بإعلان الدولة الفلسطينية عام 1999. وأسباب الفشل عديدة، أولها المقولة الاسرائيلية، عند تطبيق الاتفاقات الموقعة، وهي ليست هناك مواعيد وتواريخ مقدسة. ثانيا رفض بيريز الذي خلف رابين لاشهر قبل أن يدعو إلى انتخابات مبكرة انتهت بخسارته امام بنيامين نتنياهو، الانسحاب من الخليل لاجراء الانتخابات الفلسطينية عام 1996 وفقا لاتفاق اوسلو. ثالثا رفض الحكومة الاسرائيلية الالتزام بإعلان الدولة الفلسطينية. رابعا فشل مفاوضات كامب ديفيد بين عرفات وايهود باراك في يوليو 2000. وعودة عرفات إلى رام الله خالي الوفاض. خامسا الزيارة الاستفزازية لارييل شارون للمسجد الاقصى وسط انتشار أمني مكثف تلك الزيارة التي قصمت ظهر البعير، لتنفجر الاراضي الفلسطينية بانتفاضة عرفت باسم انتفاضة الاقصى، بدأت سلمية وتطورت بفعل أعمال القتل والتدمير والقمع الاسرائيلي إلى انتفاضة مسلحة، راح ضحيتها اكثر من اربعة الاف فلسطيني وشهدت عمليات تفجيرية داخل المدن الاسرائيلية، وانتهت بالاجتياح الاسرائيلي الكامل لكل مناطق السلطة وإعادة احتلالها، وما رافق العملية من مجازر ارتكبها الجيش الاسرائيلي، لاسيما مجزرة مخيم جنين عام 2002 وحصار الرئيس عرفات في مقره في المقاطعة برام الله حتى مرضه وخروجه للعلاج.
وبالحركة البطيئة نفسها ينقل الفيلم صور عودة جثمان عرفات من المستشفى العسكري في باريس إلى رام الله في 12 نوفمبر2004 على متن طائرة هليكوبتر وسط بحر من البشر. ويقدم الفيلم مجموعة من الصور لضريح عرفات ولزواره من زعماء العالم.. قبل أن يقدم صورة لمحمود عباس وهو يضع اكليلا من الزهور عليه، وبصورة لمحمود عباس ووراءه جدارية ضخمة لياسر عرفات، يلقي فيها كلمة الخلافة والسير على الخطى.
ينتهي عهد عرفات ويبدأ عهد محمود عباس عام 2005 يلحقها المخرج بعدد من صور للرئيس الجديد مع جون كيري وزير الخارجية الامريكية وأخرى مع الرئيس الامريكي السابق جورج بوش الابن.. وتتوالى صور محمود عباس مع نتنياهو وكيري وايهود أولمرت وشمعون بيريز وارييل شارون، وتتكرر حتى يصل إلى باراك أوباما والمصافحة بين عباس ونتنياهو في سبتمبر 2010.
يقدم الفيلم جدار الفصل العنصري بعدد من الصور، وصور أخرى للشباب الفلسطيني وهم يحاولون تجاوزه وإحداث ثغرات فيه تعبيرا عن الرفض والمقاومة.. ويعود إلى عباس وبلقطات سريعة يقدمه مع عدد من زعماء العالم. ثم ينتقل إلى طوابير الفلسطينيين في ممرات مسيجة تذكر بايام النازية، ليعود مجددا إلى محمود عباس بعدد من الصور مع زعماء اسرائيليين ويختتمها بصورة له وهو يضحك مع شارون..
وينتقل الفيلم من الصورة السابقة إلى صور العدوان الاسرائيلي على قطاع غزة الذي تمثل بالحروب الثلاث (2008 و2012 و 2014 ) والحرائق وأعمدة الدخان التي تتصاعد منه… وبعد لحظات من السواد يقدم المخرج مجموعة من صور الدمار الذي خلفته الحروب الثلاث.
وتعبيرا عن الحصار يقدم الفيلم صورا للانفاق التي حفرها أهل غزة لتهريب احتياجاتهم.. ويلحقها بصور لانفاق المقاومة.. وصور اخرى لرجال المقاومة وهم يطلقون صواريخهم. ويختم الفيلم بصورة قديمة لمخيم للاجئين. كل ذلك يقدمه المخرج في فيلم لا تتجاوز مدته الدقائق الست، وعلى وجه الدقة الدقائق الخمس و20 ثانية.
وكما يقال فالرسالة تقرأ من عنوانها، واذا طبقنا هذا المثل على عنوان فيلم جينستي "دفاعا عن الصاروخ"، فانه يثبت فشل عملية السلام دون التحريض على العنف وهذه نتيجة توصل اليها الكثير من قبله، ولكنهم وقفوا عاجزين عن التعبير عنها في زمن اختفت فيه ثورات التحرر.

علي الصالح

كاتب فلسطيني من أسرة "القدس العربي"