"أخي جاوز الظالمون المدى" .. صرخة أطلقها الشاعر محمود طه منذ أمد بعيد وربما لم تجد صداها إلى اليوم .. عن غزة الحزينة التي يكسوها الظلام أتحدث .. عن اثنين مليون قبرٍ متحرك لا ذنب لهم سوى أن القدر ألقى بهم ليسكنوا تلك البقعة من الأرض التي تعاقدت مع البؤس والفقر والحصار والظلام .. وغابت عنها كل مقومات الآدمية والانسانية ، كيف لا ومزارع الدواجن فيها ترى النور أكثر من البشر !!.
هي غزة التي كانت على الدوام مهداً للثوار .. ومدرسة ثورية نقلت تجربتها لكل شعوب العالم المظلومة .. فما من شعب يريد أن يثور على ملك ظالم أو حكومة مستهترة إلا وحمل الحجر وأشعل العجل .. إنها أدوات غزة التي أصبحت أيقونة الثورة أيمنا استوطن الظلم.
غزة التي يدفع سكانها فاتورة اختلاف الساسة على كيان لم يفلح حتى الآن في أن يصبح دولة أو شبه دولة بفعل أنانية الأحزاب وغيات حاجات المواطن عن سلم أولوياتها.
غزة التي أصبح غاية مطمحٍ لسكانها أن يروا النور أسوة بأشقائهم في الشطر الآخر من الوطن المسلوب ، وغابت عن أحاديث أبنائها الذين يلتفون حول مواقد النار بحثاً عن الدفء قضايا فلسطين المحورية : القدس والأسرى ، اللاجئين والعودة ..
غزة التي تشخص عيون أبنائها إلى الخلاص من هذا الظلام فيما يطرح ساستنا "الفيدرالية" كسبيل للخروج من هذا النفق المظلم مما ينذر بطول أمد هذا الانقسام اللعين .
غزة التي أرهقها هذا التجاهل الممنهج لحاجات واحتياجات المواطنين فتراكمت فيها الأزمات ، وأفل شعاع النور الذي طالما كان يبشرنا به ربان السفينة ياسر عرفات عندما كان يصدح بصوته الثائر: إني أرى النور في نهاية النفق.
لا شيء فيها يشبه هيئته إلا البؤس وتمتمات المواطن المغلوب على أمره .. متى الخلاص ؟؟ وإلى متى هذا الظلام ؟؟
يسألني صديقي بحرقة : ما هو مستقبل أبناؤنا ؟؟ فأجبته بمزيد من الحسرة : تقصد أننا سنعيش ما تبقى من أعمارنا على نفس الحال .. إنها حالة اليأس التي تملكتنا فأصبحنا عاجزين عن التغيير فيما ينصرف قادتنا إلى العواصم الأوربية لمناقشة سبل تحقيق المصالحة بعد عشرة أعوام من الضياع لم تنجح في الوصول إلى صيغة مرضية (لتوزيع الغنائم) .. ربما أرادوا تغيير الروتين وملّوا من فندق " الستي ستار" ولم تعد قاهرة المعز قادرة على لملمة شتاتنا.
هذه الصرخات التي يطلقها المرضى والخريجون والعاطلون عن العمل لم تفلح إلى الآن في تحريك مشاعر من ساقتهم الصدف لمواقع القيادة ، بعد أن أمّنوا مستقبل عوائلهم وأبنائهم فيما تركوا أبناء المواطنين ليجابهوا ضنك العيش دونما اكتراث.
وبعد كل هذه الفصول من المعاناة ينكر علينا بعض المستفيدين أننا نتحدث بالجغرافيا ، وجوابنا دون مواربة "إن ما يعانيه أهل غزة هو دافعنا الوحيد لذلك .. وإننا نحلم بهذا اليوم الذي تتحقق فيه وحدة الوطن .. حتى يزول هذا الشعور المؤسف بأننا حمولة زائدة على هامش اهتمامات هؤلاء القادة".
إلى كل الضمائر الحية نوجه صرختنا من غرفة العناية الفائقة .. غزة تحتضر .. لقد ضجّت شواهد القبور .. فمتى ستنتهي تلك المعاناة؟؟
بقلم: د.رامي محمد فارس