هل لدينا مؤسسات وهل نؤمن بالعمل المؤسساتي وهل لدينا فهماً حقيقياً لكيفية القيام بذلك؟، لا شك أننا نتفوق على غيرنا حتى عن تلك الدول صاحبة التاريخ الطويل في الممارسة الديمقراطية بعدد المؤسسات ضمن الهيكل الذي يحكمنا، ونوزع عليها الصلاحيات ونحدد لكل منها مساحة في القانون الاساس، ونزيد على ذلك بوضع اللوائح والأنظمة التي تضبط ايقاع عملها، لدينا على الورق كل ما يتعلق بالبناء المؤسساتي سواء داخل منظمة التحرير او السلطة أو حتى فصائلنا ومنظمات المجتمع المدني، نفاخر بما نملكه من هيكل يتمدد أفقياً حتى يكاد يصل بنا إلى كل شارع ويعلو رأسياً حتى يشق علينا أحياناً النظر إلى قمته، ولدينا أيضاً منشئات قائمة على الأرض البعض منها ملكاً عاماً والبعض الآخر ملكاً خاصاً نتحمل قيمه ايجاره، والحقيقة أن السلطة نشطت خلال السنوات الماضية في تشييد مرافق للعديد من المؤسسات كي تقلص من فاتورة المصروفات على المرافق المستأجرة.
هذا يدفعنا للقول بأننا نمتلك البنية التحتية المتعلقة بالعمل المؤسساتي سواء من حيث القوانين والأنظمة واللوائح الداخلية أو من حيث المرافق الضرورية للعمل، ويتوفر لدينا ما يفوق احتياجاتنا من القوة البشرية لتحمل مسؤولياتها والقيام بواجباتها في المؤسسات المختلفة، ولا نبخل عليها مادياً ما بين رواتب وميزانية تشغيلية وضيافة ومهمات داخلية وخارجية، رغم كل ذلك يغيب عنا العمل المؤسساتي، فالبعض من مؤسساتنا لم يتبق منها سوى ما يشير على تواجدها يافطة وعلم يعلو السارية، والبعض منها تحول إلى ديوانية يقتصر دورها على الثرثرة والضيافة وإضاعة الوقت، فيما تلك التي تعج بالحركة والنشاط ويتواجد فيها أصحاب النفوذ والسلطان لم تحفظ العديد منها أدبيات العمل المؤسساتي بقدر ما يحكمها قواعد عمل الدكاكين، تلك الفلسفة التي تخلق دوما المشاحنات والصراعات لدي العاملين بها في رحلة استحواذهم على الصلاحيات وتحصين مراكز قوة كل منهم.
ما ينقصنا هو ثقافة العمل المؤسساتي وهذا يتطلب منا أن نؤمن أولاً بأهميته في بناء مجتمع صحي لا تحكمه النزعات الفردية، ولا يخضع لأهواء شخصية وكأنه حقل تجارب لاجتهادات غير ناضجة، صحيح أن العمل المؤسساتي يتطلب بالمقام الأول قيادة تؤمن به وتسهر على تطبيقه في مكونات المجتمع المختلفة، قيادة تؤمن بأن توسيع المشاركة في صنع القرار يشكل الضمانة الأساسية لنجاح تنفيذه، قيادة تحترم رأي الأغلبية دون الإساءة لرأي الأقلية، قيادة تحترم القانون والنظام وتجعله الناظم والمتحكم في العمل، قيادة لا تقبل على نفسها التفرد بالقرار ولا على دونها من المستويات القيادية على احتكاره، قيادة تؤمن بأن الاختلاف في وجهات النظر يخلق البيئة الأكثر ملائمة لصقل القرار وإخراجه بالشكل المطلوب.
من الخطأ الاعتقاد بأن العمل المؤسساتي في أي مجتمع منوط بقرار له طبيعة الفرمان يصدر عن القيادة يلتزم الجميع بتنفيذه، بل الحقيقة أن العمل المؤسساتي يتطلب بنية مجتمعية تتسلح بالحوار والنقاش وتقبل الرأي الأخر، تبدأ فلسفتها داخل الأسرة والمدرسة والشارع وصولاً إلى المؤسسات المجتمعية الأوسع، ما بتنا نعيش في كنفه أن كل منا يعتقد أن الحقيقة تولد من صلبه، وأن الرأي المخالف لنا نزج بصاحبه في ماخور التكفير تارة والخيانة تارة أخرى أو نلاحقه بما ثقل وزنه من التهم، ألا تتحول أحياناً خلافات بين المواطنين حول صغائر الأمور إلى اقتتال يتطلب عظيم الجهد لاحتواء تداعياته؟، ألم نجعل من العنف وسيلة لقمع من يعارضنا الرأي في المنزل والمدرسة والشارع؟، دون أن نرسخ ثقافة احترام الرأي الآخر، على قاعدة أن الاختلاف في الرأي ظاهرة صحية لا يجوز لنا العمل على وأدها بالقوة، سيبقى الحديث عن العمل المؤسساتي ضرباً من الخيال، ودون أن نوسع من دائرة صنع القرار واحترام القانون والنظام ستبقى سياسة الدكاكين تمسك بتلابيب مؤسساتنا.
بقلم/ د. أسامه الفرا