ما وصلنا إليه اليوم من حالة متردية هو نتاج طبيعي للخلط بين مفهومي الدولة والثورة، وهو ما خططت له إسرائيل لخلط الأوراق الفلسطينية، كونها المستفيد الأول منه. فمنذ قدوم السلطة الفلسطينية وإسرائيل تسعى إلى تحويل الصراع من إسرائيلي - فلسطيني إلى صراع فلسطيني - فلسطيني على سلطة وهمية. وهي لم تشأ إنهاء الصراع، بل إنشاء صراع آخر ذي طبيعة فلسطينية، وهو ما نعيشه اليوم للأسف، إذ أوصلتنا إلى شبه دولة وشبه ثورة، لتصبح الأولوية لجدلية الصراع على السلطة. وفي النتيجة لم نفلح في إدارة الثورة ولم نحسن إدارة السلطة.
إن شخصاً واحداً محترفاً استطاع إدارة هذه العملية المعقدة بحدودها الدنيا هو الراحل ياسر عرفات الذي استشعر هذا الخطر وفجّر انتفاضة ثانية وأرسل حينذاك رسالة إلى إسرائيل مفادها إما الدولة وإما الثورة، وقد فهمت إسرائيل الرسالة ودفع حياته ثمناً لموقفه الوطني. ومع وفاته انهارت هذه الآلية في إدارة الحد الأدنى بين الدولة والثورة، ودخلنا في انقسام فلسطيني تحول إلى انقسامات فلسطينية متتالية وصلت إلى داخل التنظيمات نفسها وبدرجات متفاوتة، وهو ما يدعونا اليوم إلى إعادة النظر بنظامنا الفلسطيني برمته، وقبل ذلك الاعتراف بأننا وقعنا في شرك كبير عندما بقيت السلطة كما هي، ولم تتحول إلى دولة مع ثورة تحمل عشرات البنادق ببرامج سياسية مختلفة.
علينا أن نعيد المواءمة بين مفهومي الدولة والثورة، وأن نبعث رسالة عرفات لكن بصيغة أخرى تتلاءم مع ما وصلت إليه قضيتنا. وعلينا أن ندرك أن انسداد أفق التسوية السياسية سيبقينا لوقت طويل في هذا الوضع بين الثورة والدولة. عليه، يتوجب الآن التحرر ولو مرحلياً من اتفاق أوسلو الذي أسقطته إسرائيل بسياساتها المتطرفة والتوسعية في الضفة الغربية والقدس. كما علينا أن ندير مفهوم الدولة في شأننا الداخلي في شكل صحيح، فالدولة لها سلاح واحد وحكومة واحدة ولا مكان لأي ميليشيات عسكرية في مفهوم الدولة ولا يجوز المزج بين السلطات. كذلك، يجب أن نتهيأ لليوم الذي نتحول فيه من النظام المختلط بين الدولة والثورة إلى نظام الدولة الفلسطينية المستقلة.
لم يعد أمامنا الوقت الكثير للبحث عن خيارات أمام المتغيرات العربية والإقليمية والدولية المحيطة بنا، فنحن أكثر حاجة الآن إلى السعي لصوغ برنامج وطني شامل وفق رؤية وحدوية جامعة للكل الفلسطينيى على أساس الشراكة السياسية. وعلى الجميع أن يعي أن الحالة الراهنة لا تحتمل الحفاظ على الأجندات الحزبية الخاصة، فمصلحة الوطن توجب على الجميع التخلي عن أجنداتهم الحزبية الضيقة والعمل على أجندة وطنية جامعة، وتسخير كل الأفكار والاستراتيجيات والآيديولوجيات لإنجاح مشروع الاستقلال الوطني الفلسطيني. وكخطوة أولى وأساسية يجب إنهاء الانقسام السياسي بين حركتي "فتح" و "حماس" ولملمــة البيت الفتحاوي الذي هو عمود الخيمة الفلسطينية لمواجهة إسرائيل التي تسعى الى أن تكون جزءاً معترفاً به في عالمــنا العربي، مع التنصل من حقوقنا المشروعة، وإعادة الاعتبار لقضيتنا الفلسطينية في الأروقة العربية والتمسك بالشرعية الدولية الداعمة حقَّنا بإقامة الدولة، والذهاب إلى حوار جماعي مفتوح للخروج مـــن الحالة الراهنة ووضع حلول جذرية أهمها البدء في إعادة بناء منظمة التحرير الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني بما يكفـــل انضمــــام الحركات "الإسلامية" ليلتئم الشمل الفلسطيني تحـــت مظـــلة وطنية واحدة وتكوين قيادة موحدة قادرة على توجيه الشعب الفلسطيني نحو مشروع التحرر والاستقلال.
لقد أصبح واضحاً أنه ليس في وسع أي فصيل إقصاء الآخر عن الساحة السياسية، خصوصاً حركتي "فتح" و "حماس"، ولا يمكن أياً منهما تمرير برنامجها السياسي من دون توافق مع الآخر، فالطرفان خاسران والكاسب الوحيد إسرائيل، والمنقسمون لا يحررون أوطاناً.
عبير عبدالرحمن ثابت