بين مقاومة القدس ومساومات الفصائل الفلسطينية

بقلم: عبد الستار قاسم

تمر المقاومة الفلسطينية في حال ركود على مدى سنوات خاصة في الضفة الغربية ولولا أن الكيان الصهيوني يُدير عجلة الحروب لتقلّصت اهتمامات الناس بالمقاومة إلى حد خطير. أخذت المقاومة الفلسطينية تنحسر منذ اعتراف المجلس الوطني الفلسطيني بالكيان الصهيوني عام 1988، وارتفع منسوب الانحسار بعد قدوم السلطة الفلسطينية إلى الأرض المحتلة/67 لأن منظمة التحرير تعهّدت بمقاومة ما يُسمى بالإرهاب وملاحقته، والذي هو المقاومة الفلسطينية. ومنذ تشكيل السلطة الفلسطينية والمقاومون يعانون الملاحقة من قبل إخوتهم الفلسطينيين وأعدائهم الإسرائيليين. لكن هذا الركود لم يكن يوماً مطبقاً، وإنما بقيت بعض شرارات المقاومة تنفلت بين الحين والآخر، وكان الحراك الأخير الذي بدأ في تشرين الأول/2015 مؤشراً إلى أن روح المقاومة الفلسطينية والاحتجاجات لم تنطفئ تماماً، وإنما بقي الخير موجوداً وينتهز الفرصة المناسبة للتعبير عن نفسه.

قام فلسطينيون وفلسطينيات بعمليات دهس وطعن كثيرة، ولم تكن في أغلبها موفّقة بمعنى أن الخسائر الأكبر كانت تقع بالفلسطينيين وليس بالإسرائيليين. لكن لم تكن تخلو تلك العمليات من نجاح. منها ما أوقع بالصهاينة خسائر مهمة، وهي في مجملها صنعت جواً من الخوف والرعب لدى الصهاينة بخاصة في منطقتي القدس والخليل حيث تكثّفت العمليات. ومؤخراً جاءت عملية الدهس التي نفّذها الشهيد فادي قنبر   من القدس بتاريخ 8/كانون الثاني/ 2017 ضدّ جنود صهاينة فقتل أربعة جنود وأصاب حوالى خمسة عشر منهم بعضهم حاله خطرة جداً أو ميؤوس منها. وقد كان للعملية وقعها الشديد على الصهاينة، ووقعها المُريح على الفلسطينيين.

في الوقت الذي ينتشي فيه الشعب الفلسطيني باستعادة جزء من الكرامة تتجاهل قيادات فلسطينية شرعية وغير شرعية عملية الدهس وتتلهّى باجتماع ما سُمّي باللجنة التحضيرية الخاصة بترتيب اجتماع للمجلس الوطني الفلسطيني. علماً أن الشعب الفلسطيني بصورة عامة لا ينظر باحترام إلى مثل هذه الاجتماعات بخاصة إذا كانت فصائلية بسبب تدهور الثقة بالفصائل وبمجمل القيادات الفلسطينية. ويبدو أن الاجتماع قد تداعت له مختلف الفصائل مخافة خسران شيء يمكن أن تحصل عليه في نهاية الاجتماع وليس حرصاً على إعادة بناء المجتمع الفلسطيني وإعادة الهيبة للقضية الفلسطينية. وأكبر دليل على ذلك هو عدم اتّخاذ خطوات استباقية من قِبَل السلطة ومنظمة التحرير لإعادة الحياة إلى ثقة متبادلة بين الناس والقادة. كان من المفروض أن يثبت القياديون حُسن النوايا بخطوات تؤكّد أن الوحدة الوطنية هي الهدف مثل إجراء تعديلات على حكومة السلطة تلتزم بالمصالح الفلسطينية وليس الفئوية، أو تحديد تاريخ مُعيّن لإجراء انتخابات سياسية في الضفة وغزّة وفق ما ينصّ عليه القانون الأساسي للسلطة، أو تقديم بعض الفاسدين اللصوص علناً إلى محاكمات، أو السماح للمجلس التشريعي المُنتهية ولايته بالانعقاد واتخاذ قرارات للفصل بين السلطات.

 

في الوقت الذي تفاءل فيه بعض الناس بانعقاد الاجتماع، لم تكترث الفصائل بعمل استطلاع حتى لو كان هزيلاً لتقف عند ما تراه الجماهير، وتتعرّف على الآلام والهموم التي تشغلهم. كان يجب على الفصائل أن تحترم الناس، لا لأن تحزم شنطها وتنطلق إلى بيروت من دون أن تكون في جعبتها مشاريع واقتراحات ومقاربات لإخراج الشعب من أزماته. حتى أن هذه الفصائل قد منعها لهاثها عن الاتفاق على جدول أعمال لكي يكون الاجتماع مرتباً ومنظماً. ظاهر أن همها كان يتركّز على اجتماع مع أهل أوسلو الذين سبّبوا للشعب لكل هذه الأحزان والورطات. وفي هذا لم تختلف الفصائل المنضوية تحت إطار منظمة التحرير عن الفصائل التي تبحث عن موقع لها في المنظمة. فصائل المنظمة تريد أن تحافظ على حصّتها من أموال المنظمة مهما كانت ضئيلة، والفصائل الأخرى تبحث عن نصيب لها من كعك العيد.

على الرغم من أن بعض الفصائل تتحدّث سراً وأحياناً بالعلن عن عدم شرعية محمود عباس كرئيس للسلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير، إلا أنها هرولت وبسرعة إلى الاجتماع متناسية كل مبادئ الشرعية، وربما هي لا تعلم عن الأزمات التي يمكن أن يخلّفها انتهاك القوانين والضوابط والتعليمات. والملفت للنظر أن الثقافة الوطنية التي سادت في الاجتماع انطلقت من تعبير صهيوني خطير وهو شطري الوطن. لقد ورد التعبير مراراً وتكراراً على ألسنة المتحدّثين سواء كانوا من أهل أوسلو أو اللاهثين وراء أوسلو وهم ربما لايدرون  مدى خطورة التعبير. يستعمل التعبير ليعني الضفة الغربية وغزّة ويُبقي الأرض المحتلة/48 ومنطقة الحمة خارج جغرافيا الوطن وهو فلسطين الانتدابية التي صنعها الإنكليز والفرنساويون. والهدف من التعبير هو زرع فكرة لدى أجيال العرب والفلسطينيين أن فلسطين هي الضفة الغربية وغزّة ومن ثم تشويه الوعي الوطني والقومي لدى الشباب والشابات والأطفال. إنهم يريدون نزع الجغرافيا الفلسطينية من الرؤوس لكي تبقى إسرائيل حقيقة جغرافية تفرض نفسها وبغضّ النظر عن الحقوق الوطنية الثابتة. أبناؤنا يموتون ويستشهدون على أرض فلسطين، وهؤلاء الذين يظنّون أنهم قيادات يساهمون في تدمير الوعي بفلسطين. وهذا التعبير يسنده تعبير آخر وهو الأراضي الفلسطينية ليعنوا به أيضاً الضفة الغربية وغزّة.

ومن ناحية أخرى، تجاهل المجتمعون إلى حد كبير حق العودة والذي يمثل أول الثابتين الفلسطينيين وهما حق العودة وحق تقرير المصير. لقد تلهّى المجتمعون كثيراً في المصالحة بين حركتي حماس وفتح وبمسألة إقامة الدولة الفلسطينية.

من التصريحات التي سمعناها من قِبَل بعض الحضور لا يبدو أن هناك اختراقاً في الحال الفلسطينية. المشاكل ما زالت ماثلة أمامنا  ومن دون أن تكون هناك نوايا جادة في البحث عن حلول. ولهذا أوجّه كلمة واضحة إلى الحكومة اللبنانية طالباً منها ألا تستضيف مؤتمرات فلسطينية إلا إذا كان حق العودة المطلب الأول على جدول الأعمال، وتكون ثقافة تعميق الوعي الوطني والقومي أولوية في التخطيط المستقبلي.

على كل حال، لقد وعدوا باجتماع قريب يضع الجداول الزمنية لتنفيذ البنود التي أعلنوا عنها في بيانهم الختامي، والشعب ينتظر.

د. عبد الستار قاسم، أكاديمي ومفكر فلسطيني