بقدر ما يوحي به مصطلح السلام من مدلول قيمي وأخلاقي ونشدان حالة يتوق لها كل البشر فرادا وجماعات ، إلا أنه مصطلح مراوغ وملتبس ،فكم باسمه وتحت رايته اقتُرفت جرائم ،انتُهِكت حقوق ،سقطت دول وقامت أخرى ،انهارت أيديولوجيات وسادت أخرى ، كم باسم السلام اندلعت حروب وفتن ، وكم اتفاقات (سلام) وقعتها أيدي ملطخة بالدماء .
بقدر ما أن السلام هدف نبيل وعقلاني ،إلا أن له شروطا ومرتبط بغايات. نقول نعم للسلام ، لأننا كفلسطينيين نريد أن نحيا بسلام وسكينة ولأننا نريد الاستقرار ونبني دولتنا المستقلة بعد قرن من الصراع والشتات . ولكن شتان بين سلام عادل مبني على الرضى والتوافق والمشروعية ، و(سلام) يفرضه القوى المنتصر الجائر على الضعيف صاحب الحق ،شتان بين سلام يعيد الحقوق المغتصبة إلى أصحابها و(سلام) يُضيَع هذه الحقوق بعد أن ضاعت الأرض .
الفرق بين هذين النوعين من السلام كالفرق بين الحرب العادلة والحرب غير العادلة ، ففي الحالتين الفرق ليس في الوسائل والأدوات بل في الهدف . ما يتم التوصل إليه في حالة السلام غير العادل مجرد تسوية سياسية وحالة مؤقتة من الأمن والاستقرار قابلة للتفجر في أية لحظة ، مادام أحد الأطراف غير راض أو مقتنع بما تم التوصل إليه.
لا بد من التأكيد بأن مأزق المفاوضات,والتسوية السياسية لا يعني التخلي عن نشدان السلام لأن المفاوضات ليست السلام بل أداة لتسوية سياسية ترمي للوصول للسلام وإذا فشلت المفاوضات والتسوية نتيجة التهرب الإسرائيلي من عملية التسوية فهذا ليس مبررا للتخلي عن مطلب السلام لأنه أصبح مكونا أساسيا من المشروع الوطني التحرري الفلسطيني . الخطأ الذي أرتكبه تيار السلام الفلسطيني والعربي خلال السنوات الماضية ليس أنهم دعاة سلام بل لأنهم خلطوا بين السلام واتفاقات التسوية التي وقعوها مع إسرائيل وتعاملوا مع العلاقة بينهم وبين إسرائيل على أساس أنها علاقة سلام .
حتى وإن كانت إسرائيل لا تريد السلام أو غير مهيأة له الآن فيجب أن لا نتخلى عن مطلب السلام والدعوة له بل علينا التمسك بها وكشف زيف الخطاب الإسرائيلي الأمريكي حول السلام ، لأننا إن تخلينا عن فكرة السلام ونحن لا نتوفر على الإمكانيات والشروط التي تمكننا من الدخول في حرب مضمونة النتائج ، فهذا معناه ترك الساحة لإسرائيل لتحتكر فكرة السلام وتمارس الحرب الفعلية باسم هذه الفكرة .
التخلي عن فكرة السلام هو ما تريده إسرائيل ،لأن السلام يكشف إسرائيل وخطاب السلام يتيح للفلسطينيين توظيف كل منجزات الشرعية الدولية والقانون الدولي فيما يتعلق بحق تقرير المصير للشعوب الخاضعة للاحتلال ورفض مبدأ احتلال الأراضي بالقوة ويتيح لهم سهولة مخاطبة الرأي العام العالمي وكسبه لجانبهم الخ .
السلام لا يتعارض مع الحق بالمقاومة والدفاع عن النفس
السلام لا ينفصل عن القوة ، إنهما متناقضان في الظاهر ومتكاملان في الجوهر وكل منهما يستدعي الآخر ، بل يمكن القول إن موازين القوى بين الأطراف المعنية هي التي تحدد طبيعة السلام ومدى مصداقيته وتوفره على المضامين النفسية والأخلاقية والقانونية التي تفرض حالة السلام بين القوى المتصارعة ، كما أن موازين القوى تحدد إن كان ما يجري الحديث عنه سلام حقيقي أم استسلام طرف لطرف تحت مسمى السلام والتسوية السياسية .كلما كانت موازين القوى بين الأطراف المتصارعة والداخلة في عملية السلام متقاربة كلما كانت فرص تحقيق سلام حقيقي أكثر توفرا .
هذا لا يعني بطبيعة الحال أن أي طرف من الأطراف المتنازعة لا يمكنه أن يلج عملية السلام إلا إذا حقق التوازن العسكري في القوى مع الخصم ، لأن هناك ظروف داخلية وخارجية وفرص لا تكون في الحسبان تفرض أحيانا على الطرف الضعيف أن ينتهزها ويوظفها في صراعه مع الخصم وعلى طاولة المفاوضات ،من منطلق أن السياسة هي فن الممكن وأن القيادة السياسية الحكيمة هي التي لا تفوت أي فرصة يمكنها أن تقرب من تحقيق الأهداف المشروعة دون التخلي عن الحقوق والثوابت الوطنية .
أيضا فإن السلام يشكل حالة متناقضة مع العداوة ، فلا يمكن تصور قيام سلام حقيقي مادامت العلاقات بين القوى والأطراف المتواجدة تسودها العداوة ، وحتى تزول العداوة التي هي حالة منافية للسلام ، يجب أن تزول مسبباتها ، كما على طرفي المعادلة تبادل ليس فقط خطاب السلام بل أيضا ثقافة السلام ، فلا يجوز مثلا أن تتحدث القيادة الفلسطينية عن السلام وتعمل على تحويله نهجا وثقافة وسلوكا عند شعبها وفي تعاملها مع إسرائيل ،بينما هذه الاخيرة تعبئ شعبها بثقافة العداء والتطرف وتمارس كل ما من شأنه تدمير فرص السلام .
كل حركة تحرر مشروع سلام ، حتى وإن مارست العمل العسكري ، وبهذا تتميز بندقيتها عن بندقية الإرهابي والمجرم،ومشروع السلام لحركات التحرر هو الذي يقطع الطريق على العدو حتى لا يتفرد بالشرعية الدولية والقانون الدولي والرأي العام العالمي وهذه مجالات فيها الكثير مما يخدم حركات التحرر ،وفي نفس الوقت على حركة التحرر الفلسطينية أن تتعامل مع مفهوم المقاومة بعقلية منفتحة لأن الخطر الذي أصاب المقاومة الفلسطينية تاريخيا كان يكمن في حصرها بالعمل العسكري وهو ما أتاح للعدو لجرها للمربع الذي يتفوق فيه ،هذا ما جرى مع تجربة حركة حماس عندما حصرت المقاومة بالصواريخ والانفاق .
لا يعني ذلك أن القول بالسلام وبالشرعية الدولية سيجبر إسرائيل على الاعتراف بالحقوق المشروعة للفلسطينيين وستُنجز الدولة الفلسطينية تلقائيا . معركة السلام لا تقل عن أية معركة من حيث الحاجة لحشد الجهود ووحدة الموقف ومتانة الجبهة الداخلية ،و عندما تكون حركة التحرر موحدة ومتصالحة مع محيطها الدولي تكون أكثر قدرة على توصيل رسالتها ويكون لجوؤها للعمل العسكري مفهوما ومقبولا ما دام يحمل رسالة سلام ولا يهدف إلى إبادة الخصم كما روجت إسرائيل وما زالت حول هدف المقاومة الفلسطينية ،وهنا يجب التذكير بأن إسرائيل دائمة الحديث عن السلام والشرعية الدولية ومن خلال هذا الخطاب استطاعت لحين من الزمن السيطرة على الرأي العام الخارجي وعلى سياسات غالبية دول العالم بينما على أرض الواقع كانت تمارس كل أشكال الحرب والعدوان وتهدد السلام في المنطقة وفي العالم .
خطاب السلام بين المُرسِل والمتلقي
إصرار القيادة الفلسطينية وتحديدا الرئيس أبو مازن على التمسك بخطاب السلام في كل مناسبة وحين ومع أنه يحرج إسرائيل ويزيد من حالات التأييد الدولي للقضية الفلسطينية ، إلا أنه يثير كثيرا من التساؤلات حول منطلقات القيادة الفلسطينية في التمسك بخيار السلام ، وعن ماهية السلام الذي تنشده القيادة الفلسطينية في ظل الممارسات الإسرائيلية الرافضة لخيار السلام العادل حتى في إطار الشرعية الدولية وقراراتها ، وفي ظل توجهات إدارة الرئيس الأمريكي ترامب التي تنسف كل مراهنة على السلام وخيار حل الدولتين .
لأن السلام حتى الآن مجرد خطاب مُرسل من القيادة الفلسطينية – خصوصا الرئيس أبو مازن- فما هي مفاعيله عند الأطراف المتلقية ؟ يبدو أن خطاب السلام الفلسطيني يترك مفاعيل متباينة عند الأطراف المتلقية الثلاثة : إسرائيل والفلسطينيون والعالم الخارجي .:
1- بالنسبة لإسرائيل ، حتى الآن فإن خطاب السلام الفلسطيني ينطبق عليه المثل (اسمعت لو ناديت حيا ) حيث ترد على هذا الخطاب بمزيد من الرفض والتشكيك وتمارس كل ما من شأنه تدمير فرص تحقيق السلام ، وللأسف لا يقتصر الأمر على إسرائيل الدولة بل يمتد حتى للمجتمع الإسرائيلي المشبع بالعنصرية والتطرف ، حتى تشكيل لجنة برئاسة محمد المدني عضو اللجنة المركزية لحركة فتح للتواصل مع قطاعات المجتمع الإسرائيلي لم تحقق إلا اختراقات محدودة .
2- أما على المستوى الفلسطيني ، يبدو أن خطاب السلام عند الرئيس الفلسطيني والذي يتمركز حول حل الدولتين يعاني من مأزق مركب ، فهناك إسرائيل الرافضة للتعاطي معه مبدئيا ، وهناك الممارسات الإسرائيلية التي تقطع الطريق على أية إمكانية لنجاح السلام وقيام الدولة الفلسطينية ، وعندما ينفصل الخطاب عن الواقع يتحول لخطاب وعظي أو فلسفة أخلاقية ، أيضا لا يوجد توافق بين الفلسطينيين حول رؤية الرئيس حول السلام حيث يخلط البعض بين السلام والتسوية السياسية وخصوصا اتفاق أوسلو ، أو يعارضوا خطاب الرئيس حول السلام من منطلق المناكفة السياسية ، كما لا يوجد توافق كامل حول حل الدولتين وخصوصا من طرف حركتي حماس والجهاد الإسلامي . ولكن الأخطر أن السلطة الفلسطينية تتصرف مع السلام باعتباره حالة متعارضة مع المقاومة ،وبالتالي تمارس على الأرض إجراءات تتوافق مع توجهاتها للسلام مثل التنسيق الأمني مع الاحتلال ومنع كل أشكال المقاومة ، بينما إسرائيل تتعامل عكس ذلك تماما .
3- أما بالنسبة لتأثير خطاب السلام دوليا فهو يحقق إنجازات ولا شك ، حيث تزايد التعاطف والتأييد العالمي مع القضية الفلسطينية وانكشفت إسرائيل كدولة رافضة للسلام ... ولكن يبقى السؤال إن كان التأييد الدولي لوحده ، حتى وإن تمظهر في قرارات دولية ، يكفي لتحقيق السلام بالمفهوم الفلسطيني وتقوم الدولة الفلسطينية المستقلة ؟.
وأخيرا يبقى السؤال مشرعا ومشروعا :هل مجرد التمسك بخيار السلام دون تجاوب الطرف الآخر من معادلة الصراع سيحقق السلام ؟ أم أن الأمر يحتاج لأدوات أخرى ، ليست بديلة بل معززة وداعمة لهذا الخطاب ؟ .
بقلم/ أ. د. إبراهيم أبراش