هدوء الداخل الطويل

بقلم: سري سمور

ملاحظة أو توضيح:هذا أول مقال في هذا العام 2017 من سلسلة مقالات بدأت في أيلول/سبتمبر من العام الماضي 2016 وللتوضيح المكرر فإن هذه السلسة تهدف إلى تسليط الضوء على الدور العربي الرسمي في القضية الفلسطينية، وتأثر الحالة الفلسطينية ومسار القضية بوضع الحالة العربية عبر مختلف المراحل، أي أن هذه ليست سلسلة تاريخية بالمعنى المعروف للكلمة، ولا مجال لسرد وعرض كل كبيرة وصغيرة في تاريخ قضية دسمة كقضية فلسطين، تزخر بالأحداث، بل كل يوم هناك حدث جديد، وأنا أقول بأن كل فلسطيني بيوميات حياته أيا كانت هو حلقة من سلسلة حلقات التغريبة الفلسطينية، ولكن هذا ليس موضوعي على الأقل في هذه السلسلة، ومع ذلك أرى أنني تطرقت بإجمال أو تفصيل إلى كل الأحداث في كل فترة زمنية مررت بها...أقول هذا موضحا نظرا لبعض الملاحظات من قرّاء أنا شاكر لهم أولا، كانوا يرون ضرورة التعمق أكثر في التفصيلات، وذِكر أحداث أرى أنها ليست مفصلية في تاريخ القضية مقارنة عما جئت به...بل لربما يرى آخرون بأنني أطلت الحديث...والشكر للجميع  طبعا.

 

(18)  هنا...انحباس الثورة 20 سنة  

 

قلنا بأنه جرت محاولات لتثوير الضفة، وتشكيل خلايا عسكرية فيها، ولكن هذه المحاولات لم تنجح في خلق حالة ثورية تستنزف الاحتلال، وتأخرت الثورة جيلا كاملا، من 1967-1987م وهذا للأسف زاد من قدرة الاحتلال على إحكام سيطرته، وفرض واقع جديد، ولا بد من استعراض أهم أسباب تأخر وانحباس الحالة الثورية في الأراضي الفلسطينية التي احتلت في النكبة الثانية (حزيران/يونيو 1967م) وهي أسباب متنوعة، وألحظ أحيانا أن هناك من يكتفي بتعليل واحد فقط، وباتجاه واحد، وقد ترجح عندي أن هذا الانحباس والتأخير مرده إلى الأسباب الرئيسة التالية:-

1) تضاريس الضفة الغربية وقطاع غزة تختلف عن تضاريس الدول التي قامت بها حروب عصابات ضد الدول الغازية؛ فالجزائر بها جبال شاهقة وعرة، وفيتنام بها غابات كثيفة، أما الضفة الغربية فإنها وإن حوت بعض الجبال والأحراش والغابات، فإنها بمساحات محدودة، كما أن الاحتلال حرص على الاستيلاء على ما يراه استراتيجيا منها، بوضع نقاط وقوات عسكرية، وقطاع غزة شريط ساحلي ضيق، وبناء على ذلك، فإن الأسلوب الأمثل كان أسلوب العمل المبني على السرية الشديدة، والخلايا الصغيرة المنفصلة، لاستنزاف طويل الأمد لهذا المشروع الصهيوني، وهو ما لم تعمل به المقاومة الفلسطينية، إلا بعد أكثر من ربع قرن تقريبا من النكبة الثانية، في وقت كان الاحتلال قد تطورت أدواته وتغيرت كثير من العوامل والظروف في الإقليم وفي العالم.

2) كان عدد سكان الضفة والقطاع حوالي مليون ونصف المليون نسمة تقريبا، وطبعا هناك فاصل جغرافي بين الضفة والقطاع، مع أنه بعد الاحتلال سمح بالتواصل بينهما، وهذا يعتبر عددا صغيرا نسبيا، خاصة أن التركيبة العامة اجتماعيا كانت تقوم غالبا على نظام الأرياف في الزعامة والسيادة، أي الولاء الأكبر للحاضنة العائلية، والتي يبعد ويصعب  أن تتحول إلى الولاء وأخذ التعليمات من تنظيم سرّي ومن شخوص من خارج الإطار العائلي في ذلك الزمان، في ظل محدودية وسائل الإعلام والتواصل مع العالم الخارجي، كما أن غالبية المجتمع أو لنقل جزء كبير منه، كانت في حالة من التقاليد الاجتماعية التي تنعكس على الفكر ويصعب تغييرها بسهولة حتى في ظل الصدمات الكبيرة، والمجتمعات الريفية وإلى حد ما المدنية العربية لا تتغير أفكار سكانها السياسية بسهولة، ولديهم نوع من التحفظ والتفكير العميق قبل الإتيان بخطوات ثورية حادة، والتغيرات الدراماتيكية في الفكر السياسي لوحظ لاحقا أنها أكثر ما تكون في المخيمات الفلسطينية، ولهذا من الطبيعي أن تكون في غزة أكثر منها في الضفة، ولكن حتى المخيمات بحكم الوضع الاقتصادي والاجتماعي مكثت فترة حتى تنامت وطغت عليها الحالة الثورية الصدامية مع الاحتلال، مع أنها عموما كانت حاضنة- لأسباب تحدثت عنها في مقال سابق- متجددة للعمل المقاوم بمفهومه العسكري.

3) كانت الضفة الغربية تتبع الأردن، وخضع قطاع غزة إلى حكم عسكري مصري مشدد، وكان من الطبيعي أن يكون لهذه الفترة تأثيراتها على السكان ونمط تفكيرهم، إذا أضفنا إلى ذلك ظروفهم الاقتصادية والتعليمية، وما حدث قبلها من أحداث متسارعة:انهيار السلطنة العثمانية والانتداب البريطاني والنكبة الأولى وغيرها؛ فوجدوا أنفسهم تحت احتلال لئيم، ولم يكن لديهم فكرة متبلورة سابقا قائمة على سؤال مهم:ماذا لو انتصر اليهود في الحرب؟فقد كانوا بفعل الإعلام المصري في حالة ثقة كاملة بنصر مؤزر، فأصيبوا بصدمة نفسية احتاجت جيلا كي تزول آثارها السلبية.

4) العقلية التي سادت عند العامة والخاصة تقوم على الأمل بجيوش العرب وزعمائهم لإزالة الاحتلال حربا أو سلما، رغم الهزيمة النكراء، وربما تعزز هذا الشعور بعد حرب 1973م وتجددت الآمال عند الناس، خاصة أن العواطف تتحكم إلى حد كبير في التفكير السياسي عندنا.

5) المنازلة في(الكرامة) أعطت الناس في الأراضي المحتلة أملا وتصورا بأن الفرج من خارج فلسطين، وأن ساحات المواجهة الحقيقية هي وراء الحدود، ولذا لا عجب بأن عددا من الراغبين في القتال، غادروا والتحقوا بصفوف الفدائيين في الخارج، ولم يعودوا إلى الأراضي المحتلة.

6) أسلوب تجنيد الخلايا لم يتطور، بينما كانت المخابرات الإسرائيلية تزيد من قدراتها وتطورها وتنشط في الداخل والخارج، ولا تكفي الحماسة والإخلاص والشجاعة، لمواجهة أساليب ماكرة يستخدمها باحتراف من تلقوا تدريباتهم في أكاديميات أمنية لديها إمكانات لا تقارن بما لدى المنظمات الفلسطينية.

7) عمد الاحتلال إلى سياسة العصا والجزرة؛ فبينما كان مجرد رفع علم أو كتابة شعار، يكفي للزج بالفرد الفلسطيني في السجن، مع حفلات تعذيب شديد، سمح تدريجيا لسكان الأراضي المحتلة سنة 1967 بالدخول إلى داخل الأراضي المحتلة سنة 1948 للعمل وسمح لهم بالتواصل مع إخوانهم القاطنين في الداخل لأول مرة منذ النكبة الأولى، وطرأ تحسن على أوضاع الناس المعيشية، وسهلوا للعديد من الناس السفر للعمل والإقامة في الدول العربية النفطية وغيرها، وهذا كان فيه إلهاء للناس عن قضيتهم الوطنية، ويحمل تحذيرا مبطنا.

8) النظام الاجتماعي ساعد في تأخير الثورة على الاحتلال؛ لأن ثمة من تقاطعت مصالحهم الشخصية ومكانـتهم الاجتماعية مع الاحتلال، وأرجو هنا ألا يساء فهم الفكرة، فهؤلاء لم يعقدوا بالضرورة صفقة مع الاحتلال، ولكن هناك معادلة وتفاهم صامت:الهدوء مقابل حفظ مصالح شخصية أو عائلية أو غيرها، وحيث أن النظام الاجتماعي السائد هنا كان هرميا أبويا بامتياز، والوعي السياسي كان ما زال متواضعا فقد استمرت هذه المعادلة عشرين سنة!

9) حرص الاحتلال على المراقبة الشديدة وإحكام السيطرة على السكان، مع أنه سمح لهم بالتنقل في كل فلسطين من رفح حتى الناقورة، فكل منطقة هناك ضابط مكلف بمتابعة الناس فيها، وكان كل ضابط يحرص على استجواب ناعم أو خشن مع الرجال والشبان، وبعض النساء، ويحاول أن يسقطهم في وحل العمالة، وكان يكفيه النجاح ولو مع حالة واحدة في كل فترة خدمته، ومن لا يتعاون يتعرض للشعور بأن أنفاسه معدودة عليه، ويتلقى رسالة ترغيب وترهيب،حسب الحالة والوضع وطبيعة الشخصية، وكان الاحتلال يساوم الإنسان على كل شيء في حياته اليومية، مثل السماح بالسفر إلى الخارج، أو الحصول على رخصة قيادة مركبة، أو رخصة بناء بيت، لهذا ساد شعور جماعي، بأنه يكفي المرء الصمود والبقاء في أرضه شريفا غير متعاون مع العدو، حتى يأتي أمر الله.

10)                  إن بندقية واحدة في أيدي أبناء الشعب المحتل، أكثر فاعلية من مئة مدفع رشاش في الخارج، هذا مفهوم، ولكن الناس لم يكن بيدهم سلاح، وما كان معهم من سلاح شحيح قبل النكبة الثانية، كان رسميا، وله سجلات وتدوين مفصل، وضع الاحتلال يده عليها بسهولة تامة، وجمعها في فترة قياسية قصيرة، وغير ذلك بنادق متفرقة قديمة تعود إلى الحربين العالميتين، لا فاعلية لها، وعددها قليل جدا، فقد كانت هناك خطة محكمة منذ الانتداب البريطاني، تقوم على جعل الشعب الفلسطيني أعزلا في مواجهة قوات كبيرة مسلحة بأسلحة حديثة؛ وعليه فإن الشعور العام  كان يقول:الكف لا تلاطم المخرز، وهو شعور عززته العوامل والظروف المذكورة في السطور السابقة.

هذا الهدوء الذي استمر حتى الثامن من كانون أول/ديسمبر 1987 في الضفة وغزة، استفاد منه الاحتلال كثيرا، في تقوية شبكات تجسسه، وإقامة مستوطنات كأمر واقع فوق الأرض الفلسطينية.

 وظلت المنظمات الفدائية التي دخلت وقادت منظمة التحرير، موجودة بقواها البشرية والمادية في الدول العربية، ولكل دولة عربية سياستها وتوجهاتها وعلاقاتها، ومزاجها ومحبتها وكراهيتها للحركة الوطنية الفلسطينية، وبعض الدول والزعماء العرب، كانوا يريدون الاستحواذ تماما على الملف الفلسطيني...والبقية من الحديث تأتي إن شاء الله.

،،،،،،،،،،

السبت 23 ربيع الآخر  1438هـ ، 21/1/2017م

من قلم:سري عبد الفتاح سمّور(أبو نصر الدين)-جنين-أم الشوف/حيفا-فلسطين