حتى الآن وإلى أجل غير مسمى، تظل غزة وفق مقياس المآسي والعذابات تحتل المرتبة الأولى، وإذا كانت الأخبار في زمن الربيع العربي تتحدث عن الموصل وإدلب والرقة، وعن السيارات المفخخة وعن مداهمات المطاعم والملاهي، واستخدام السلاح الكيماوي، فكل ذلك على هوله وفداحة خسائره، يظل متواضعًا بالقياس إلى أصغر أرض معركة اسمها غزة، التي لا تتجاوز مساحتها مساحة حي متوسط من أحياء مدن الربيع العربي، ولا يوازيها في الكثافة السكانية أي مكان في العالم.
دعونا نجرب حسبة رقمية بسيطة. في الحروب الإسرائيلية على غزة دمر أكثر من ثلاثين في المائة من مساكنها، وقتل عشرات آلاف بالجملة والمفرق، وفي الصراعات الداخلية كذلك قتل عدد يصعب إحصاؤه بدقة، وصار المعاقون في شوارع غزة وأحيائها، ظاهرة يومية بل سمة من سماتها.
هذا عنصر واحد من عناصر مأساة غزة، أما العنصر الثاني، فيتجسد في عدد من الأجيال لا يعرف ولو مترًا واحدًا خارج الأسلاك الشائكة التي تطوق القطاع، فالضفة بالنسبة لهذه الأجيال، مجرد مكان نسبة الموت والعذاب فيه أقل من نسبتهما في غزة. والعمل في إسرائيل أمنية تداعب أخيلة مئات الألوف ممن لا عمل لهم في بلدهم المحاصر، حتى لا منفذ لهم إذا ما فكروا في الهجرة ولو إلى أعماق البحر.
وعنصر آخر يحتاج إلى روائي موهوب كي يسجله ويعرض تفاصيله وأعماقه، وهو أن غزة تواجه أعداءً وأصدقاء مباشرين وغير مباشرين، وهؤلاء الأعداء والأصدقاء يقدمون لغزة وسائل توفر البقاء على قيد الحياة، والحياة عند هؤلاء تساوي مواصلة العذاب.
لا تعدم غزة من يقدم بعض الزاد بما نسميه بالتنقيط في الحلق، وهذا أيضًا وإن أدى إلى مواصلة الحياة إلا أنه يؤدي مع ذلك إلى مواصلة العذاب.
مأساة غزة تجاوزت السياسة والمقاومة، وأوضح تجلياتها هذه الأيام حكاية الكهرباء. أهل غزة تعودوا على التواضع في الطلبات، فهم لا يطلبون انفتاحًا على الجزء الآخر من الوطن، فالحاجز الإسرائيلي يمنع حتى الأمنيات من المرور، ولا يطلبون أمتارًا جديدة يسمح لهم فيها بالصيد في بحرهم وبمحاذاة شاطئهم، ولا يفكرون حتى في المصالحة بين فتح وحماس، حتى إن أبدانهم تقشعر لمجرد سماع هذه الكلمة، ولم يعودوا يطالبون بمنازل تقي حر الصيف وبرد الشتاء، ولا بغرف تحتوي الأولاد الذين يعيشون في الشوارع، فكل هذه الأشياء صارت مطالب لا أمل في تحقيقها، ولا جدوى من مجرد التفكير فيها.
إنهم يطالبون الآن بساعة إضافية، فوق الساعات الأربع التي تزور فيها الكهرباء بعض مناطق غزة، ويسمعون أن هنالك من قدم ملايين الليترات لمحطة توليد الكهرباء، وبعض ملايين الدولارات لسداد أثمان الوقود، وحين يدققون في الأمر يجدون أن الحكاية في حدها الأقصى ترفع ساعات الكهرباء إلى سبع، وحتى هذا الحد الأقصى لن يكون مستقرًا، ولا حتى متوفرًا لأكثر من شهرين أو ثلاثة.
ذروة المأساة أن تتواضع الطلبات إلى هذا الحد، وأن تتكيف الحياة مع هذا النوع من الحرمان الدائم، وأن يشتري الموسرون حياة قريبة من العادية بمثقال من الذهب، أما الذين لا يملكون هذا المثقال أو بعضًا منه، فقد ملكوا شيئًا واحدًا فقط، وهو طرق الخزان الفولاذي المحكم حول حياتهم بقبضاتهم العارية، فاكتشفوا أن مأساتهم لن تتوقف عند هذا الحد، فضرب جدار الخزان صار ممنوعًا وربما يصير ضروريًا قطع اليد التي تدق.
غسان كنفاني، رحمه الله، كتب عن آدميين ماتوا اختناقًا وهم يطرقون خزان شاحنة دون أن يسمعهم أحد، أما خزان غزة فممنوع على الساكنين فيه حتى أن يطرقوا جداره.
نبيل عمرو
كاتب وسياسي فلسطيني