كل الدول العربية والسلطات الحاكمة بما فيها السلطة الفلسطينية قيد التشكل مارست الإقصاء السياسي بحق خصومها السياسيين،او حتى من تعتبرهم خطراً على وجودها ومصالحها وأمنها،بما في ذلك داخل إطار الحزب الحاكم،والحزب الواحد،و"الإخصاء" السياسي يكون من خلال شن حملات تحريض وتشويه على الخصوم السياسيين،من اجل التشكيك بمواقفهم ومعارضتهم،وخلق صورة مشوشة وسيئة عنهم ،او من خلال تطويعهم ودفعهم لمغادرة العمل السياسي او الجماهيري او الحزبي،أو التوقف عن نقد السلطة ومهاجمة مواقفها واتفاقياتها ورؤيتها السياسية،او شن حملات فضح وتعرية لأجهزتها وطريقة قياداتها وادائها...الخ والطريقة الأخرى لممارسة هذا "الإخصاء"،هي لجوء السلطة الحاكمة الى شراء الذمم للخصوم السياسيين،أو من يراد تطويعهم واخراجهم من دائرة الكفاح والنضال والفعل الشعبي والجماهيري،عبر استيعابهم في أجهزة السلطة ومؤسساتها،واعطائهم المناصب والرتب والرواتب،وبالتالي يصبحوا جزء من منظومة السلطة الحاكمة،وأوضاعهم وظروفهم الإقتصادية تتحسن،تبعاً للرواتب التي يتلقونها من السلطة،وبذلك قدرتهم على ممارسة النقد او الإعتراض على سلوك ومواقف السلطة تصبح ضعيفة،أو حتى معدومة،فالراتب والوظيفة والموقع كلها عوامل من شأنها،شل القدرة على القيام بأي فعل او نشاط معارض،او حتى اتخاذ مواقف متناقضة مع مصالح السلطة القائمة او حتى الحزب والتنظيم،وقد لاحظنا ذلك فلسطينياً في المؤتمر السابع لحركة فتح،فهناك الكثير من الكوادر التي لم تدعى للمشاركة في المؤتمر،حكم موقفها الراتب والوظيفة والتزمت الصمت،وهذا ينطبق على العاملين في مؤسسات السلطة المدنية والأمنية،ولذلك عندما يجري الحديث عن عدم تحول الهبات الشعبية المتلاحقة في القدس والضفة الغربية الى انتفاضة شعبية تخرج من دائرة الفعل الإشتباكي القاعدي والعفوية الى انتفاضة شعبية شاملة،مؤطرة ومنظمة ولها قيادة وهدف،تحمل مشروع وبرنامج سياسي،نرى بان ذلك يصطدم،بسلطة لا تتبنى هذا الخيار،بالإضافة الى انها نجحت في خلق طبقة اجتماعية من داخل السلطة وخارجها (180) ألف موظف ربطت مصالحهم وأرزاقهم بمؤسسات النهب الدولي من صندوق نقد وبنك دوليين،ولذلك هذه الطبقة تجد الأولوية للحفاظ على مصالحها والدفاع عنها،وتصبح غير معنية بحدوث انتفاضة شعبية،أي هي تقايض الحقوق الوطنية بالمصلحة الإقتصادية،أو تختزل الموقف الوطني والحل السياسي،حتى لو هبط سقفه كثيراً في موقف ورؤية السلطة وبرنامجها،وهنا تتعرض للإخصاء مرتين،مرة بانها أصبحت رهينة لمؤسسات النهب الدولية،ومرة اخرى بالتنازل عن مواقفها ومبادئها السياسية لصالح حماية مصالحها وولي نعمتها .
نعم نحن عربيا وفلسطينياًً نعيش حالة واسعة وكبيرة من "الإخصاء" السياسي،في ظل وجود قوى وانظمة تمارس الإقصاء والديكتاتورية وقمع الحريات ومصادرة الحقوق بحق شعوبها وخصومها السياسيين،وهذه الحالة من القمع والإقصاء،تدفع بالخصوم والجماهير،إما للتمرد والثورة وهذا بحاجة الى حواضن واحزاب ومؤسسات،تؤطرها وتقود نضالاتها،وهذه الأحزاب والقوى،هي الأخرى تعاني من ازمات عميقة،غير قادرة على الفكاك منها،أو هي غير جاهزة او قادرة على تحمل أعباء النضال والتغيير،وفي ظل غياب القوى والأحزاب القادرة على القيادة وتحمل كلفة اعباء النضال والتضحية،نجد بان الغالبية الكبرى من الجماهير تجنح نحو الإستكانة والخضوع،او تصبح جمهور صامت يمارس النقد والمعارضة والشتم في سره،او امام شاشات الفضائيات،او عبر الأدعية والدعاوي،او ان قسم من الجماهير تندفع نحو التطرف الديني والمذهبي،وترى بان الحل فقط من السماء وليس الأرض.
السلطة تصبح قدرتها على ممارسة "الإخصاء" السياسي على نطاق اوسع وبأشكاله المختلفة،عندما تفقد المعارضة السياسية بألوانها المختلفة القدرة على طرح البديل،القادر على إنتشال البلد من أزماتها السياسية والإقتصادية والإجتماعية،نحو بديل يغيير هذه الأوضاع للأفضل،وبما يصون الحقوق والكرامات.
عندما تصبح السلطة والمعارضة وجهان لعملة واحدة،ويصبح هناك تماهي كبير بين مواقف السلطة والمعارضة،بإستثناء الخلاف في الإطار الشكلي والشعاري،فإن الجماهير،تصاب بخيبة امل وإحباط وتتعزز حالة فقدان الثقة ما بين الجماهير وتلك الأحزاب، وتتجه نحو اللامبالة وربما الخنوع،مع ملاحظة بأن الطاقات الشبابية الكامنة المندفعة والحاملة لفكر وطني،والرافضة للذل والمهانة،والتنازلات عن الحقوق الوطنية،تنتظم في حراكات شبابية،وتقود هبات شعبية تفشل في تحويلها الى انتفاضة شعبية شاملة،في ظل غياب التأطير والتنظيم والقيادة والهدف الواضح والمحدد،تعلو تلك الهبات حيناً وتهبط حينا أخر،مع البقاء في الإطار المكاني المحلي،إرتباطاً بشدة حالة القمع والتنكيل التي يمارسها المحتل بحق شعبنا الفلسطيني.
وهنا تصبح حالة نسميها ب"الإستنقاع" الأزمة الشمولية العامة التي تصيب السلطة والمعارضة معاً،وحتى الجماهير الشعبية، وهذه الأزمة جزء مرتبط منها بحالة "الإخصاء" السياسي الممارس من قبل السلطة،والجزء الآخر مرتبط بقوى البديل والتغيير،والتي بسب ازماتها العميقة،أصبحت غير قادرة على ممارسة دور البديل،في الواقع العملي وعلى أرض الواقع،وبالتالي الجماهير عزفت وابتعدت عنها،ولم تعد برامجها ومواقفها جاذبة لها،وهي تصبح احزاب طاردة،بدلاً من ان تكون بؤر وأطر جذب للجماهير.
وهذا التوصيف ينطبق بشكل كبير على الحالة الفلسطينية الآن،حيث نجد أن الإنقسام القائم منذ أكثر من عشر سنوات،يتشرعن ويتأبد،وتفشل كل الجهود والمبادرات واللقاءات في إنهائه،وازمة النظام السياسي الفلسطيني تتعمق،وكذلك يزداد الصراع ما بين طرفي الإنقسام ( فتح وحماس) على سلطة منزوعة الدسم،فيما الفصائل الأخرى تفشل في الدفع بإتجاه إنهاء الإنقسام،وتتعمق ازمتها هي الأخرى،ولتصبح الحالة الفلسطينية بنظامها السياسي الشمولي مأزومة،تفقد الشرعية وتتآكل هيبتها والثقة بها،عند الجماهير،لكي يصبح المطلوب للخروج من حالة "الإستنقاع" الأزمة الشمولية ثورة شاملة تطال النظام السياسي الفلسطيني كاملاً،منظمة وسلطة واحزاب،لكي نكون امام نظام سياسي متجدد قادر على الدفاع عن حقوق شعبنا الفلسطيني وحمايتها كشعب وقضية وحقوق من خطر التشظي والتفكك والإندثار.
بقلم/ راسم عبيدات