لا يعترف الأيديولوجيون على كافة أشكالهم وأصنافهم بالثقافة المتنوعة خارج إطار أيديولوجيتهم الخاصة، سواء كانت هذه الأيديولوجيا وضعية مثل ((الماركسية)) أو تلك الأيديولوجيات التي ارتكزت على مفاهيم دينية حيث وضعت الدين في قالب أيديولوجي سياسي معين ...
فالأيديولوجيا تقسم البشر دائماً إلى فسطاطين لا ثالث لهما، إما حق وإما باطل، إما خير وإما شر، وتضع نفسها ((الأيديولوجيا)) في مواجهة الجميع وترفض أية أفكار أو ثقافات تقوم على أساس التعدد والتنوع الثقافي والمعرفي والمصلحي فالأيديولوجيا تختزل مفهوم الثقافة، بمفاهيمها وعلى قياسها التي تسعى إلى تطبيقها على الواقع وعلى الجميع، وهذا ما يتناقض مع الفطرة الإنسانية، التي فطر الله عليها البشر، كما فطر الطبيعة بكل مكوناتها، وبالتالي يصبح الأيديولوجي أسير القوالب الجامدة التي حشر نفسه فيها ويسعى لحشر الآخرين معه، كما يسعى إلى تحجيم الواقع على قياسها، وبالتالي يسقط السقطة الكبرى في وضع نفسه في مواجهة الغير المتنوع، والواقع المتعدد العنيد الذي يستحيل فرض النموذج الأيديولوجي الخاص عليه وتماثله معه، لقد كان مصير الأيديولوجيات الاصطدام مع الغير المتعدد والمتنوع الثقافات والأهواء والمصالح، على عكس الثقافي الذي اعتمد سنة الله في خلقه والقائمة على اعتماد قاعدة التنوع والتعدد في البشر وفي الطبيعة، والتباين في الظروف والإمكانيات وفي الثقافات والحضارات، وتغير الأزمان، وفي المصالح التي تتقاطع أو تتلاقى أو تتعارض، تلك هذه سنن كونية، لابد من الإحاطة بها، وتقديرها في التعاطي مع الواقع، ومع الغير، والإعتراف بها وبالآخر المختلف، وفق قوانين وضوابط تراعي حرمة الإنسان وحريته وكرامته.
الأيديولوجيا تمثل بدائية فكرانية بدائية ضيقة لا تتسع للواقع المعاش، ولا تتسع للتنوع البشري، في حين أن الثقافة هي شاملة وواسعة للواقع ومتغيراته، وتنوعه، وتنوع أفراده، على مستوى الزمان والمكان.
تلك الإشكالية الجوهرية لا زالت قائمة ومحتدمة ما بين الفكر الأيديولوجي الذي يسعى إلى فرض فهمه في كل شيء وعلى كل شيء، وما بين الفكر الثقافي الذي يسعى إلى فهم كل شيء، والتعاطي مع كل شيء، وفق آليات وضوابط تراعي تلك المتغيرات وقوانينها الطبيعية، كما تراعي إنسانية الإنسان وحرمته وحقه في العيش بكرامة وحرية وعدل ومساواة، وتتفهم ظروفه وأحواله.
وبالتالي سيبقى التناقض والتعارض قائماً بين الأيديولوجي والثقافي، وسيبقى هذا التناقض منتجاً للصراعات والاختلالات البينية على مستوى الجماعة الواحدة فيما بينها، وعلى مستوى الجماعات المتعددة الأخرى، إلا أن الغلبة دائماً ستكون للفطرة القائمة على التعدد والفكرانية الثقافية، وهذا ما تدفع ثمنه اليوم مجتمعاتنا العربية والإسلامية جراء من اعتمدوا الدين ((كأيديولوجيا)) سياسية ضيقة وفق فهمهم الخاص له ومحاولة فرضه على الآخرين بالعنف، هذه الإشكالية التي تدفع اليوم المجتمعات العربية والإسلامية ثمناً باهظاً لها، ولكنها هي المقدمة لإدراك ضرورة الانتقال إلى الوعي الجمعي الثقافي الذي سيتأسس على أساسه نهضة وبناء وتقدم المجتمعات العربية.
بقلم/ د. عبد الرحيم جاموس