بريطانيا مع الشيء ونقيضه.. ولا حياء

بقلم: علي الصالح

"ليس هناك صديق دائم ولا عدو دائم.. هناك مصالح دائمة" هذه مقولة الزعيم البريطاني الراحل ونستون تشرتشل.. فالمصالح هي التي تحكم وهي التي تحدد الصديق والعدو.
هذه هي السياسة التي سارت عليها الحكومات البريطانية من قبله ومن بعده.. ولم تخرج عن إطارها رئيسة الوزراء الحالية تريزا ماي. إنها سياسة التآمر التي أقامت بريطانيا على أساسها امبراطوريتها العظمى التي لم تغب الشمس عنها، فهي لا تزال تقف وراء معظم مصائب العالم وكوارثه، بواجهة أمريكية.
فقد عودتنا بريطانيا ان تقف مع الشيء ونقيضه في آن دون حياء ودون أن يرمش لها جفن.. فقد صوتت ولحساباتها الخاصة لصالح مشروع قرار مجلس الأمن الدولي 2334 الذي يدين الاستيطان في الاراضي الفلسطينية المحتلة، وبعده بأسابيع قليلة رفضت توقيع البيان الختامي الصادر عن مؤتمر باريس للسلام في الشرق الاوسط الذي شاركت فيه بمستوى متدن، رغم ان ما جاء في هذا البيان لا يختلف بالفحوى عن نص القرار 2334، بل حالت دون تبني الاتحاد الاوروبي لبيان مقتضب يؤيد بيان باريس.
والامثلة على السياسة البريطانية هذه كثيرة في التاريخ، ولن أدخل في تفاصيلها الاستعمارية وسياساتها المبنية على مبدأ فرق تسد، واكتفي بمثالين فقط على ذلك، فرغم ان بريطانيا كانت وحدها المسؤولة عن قيام الكيان الصهيوني من ألفه إلى يائه، إلا أنها لم تكن من أوائل الدول التي اعترفت به رسميا وتبادلت السفراء معه. وجاء هذا الاعتراف بعد مرور عامين على تأسيسه. والشيء بالشيء يذكر فإن منظومة الدول الاشتراكية كانت في مقدمة الدول التي تعترف بالكيان الجديد، وروسيا كانت الدولة الاولى. وجاءت في المرتبة الثانية بعد الدول الاشتراكية، دول امريكا اللاتينية.
أما الدليل الثاني فيتجلى في صياغتها لقرار مجلس الأمن الدولي242 بعد هزيمة ثلاثة جيوش عربية، واحتلال إسرائيل لمرتفعات الجولان السورية وبقية فلسطين (الضفة الغربية وقطاع غزة) وصحراء سيناء ليقف جيشها على ضفاف قناة السويس.
كان هناك نصان الأول فرنسي روسي إسباني عربي، يدعو إسرائيل للانسحاب من الاراضي التي احتلت في النزاع الأخير (1967). أما النص الانكليزي فقد حذف منه، وبناء على تعليمات اللورد كارادون المندوب البريطاني في مجلس الأمن في حينها، "أل" التعريف من كلمة "الأراضي" ليصبح النص "الانسحاب من اراضي احتلت في النزاع الاخير"، وهو نص غامض قابل للتآويل والتفسيرات المختلفة. وإضافة إلى قضية الانسحاب نص القرار على إنهاء حالة الحرب والاعتراف ضمنا بإسرائيل دون ربط ذلك بحل قضية فلسطين، التي اعتبرها القرار مشكلة لاجئين. ويشكل هذا القرار منذ صدوره صُلب كل المفاوضات والمساعي الدولية العربية لإيجاد حل للصراع العربي الإسرائيلي.
مواقف تتسم بالدهاء تحكمها المصلحة والمصلحة فقط، وتكشف عن الوجه الحقيقي لبريطانيا، ويذكرنا بتاريخها الأسود بدءا باتفاق سايكس بيكو بالتآمر مع فرنسا الاستعمارية، وتقسيم تركة الامبراطورية العثمانية، أي العالم العربي (1916) مرورا بوعد بلفور المشؤوم (1917) الذي لا بد أن يصر الفلسطينيون على تدفيعها ثمن هذه الجريمة النكراء، وليس الاكتفاء بمجرد المطالبة بتقديم الاعتذار.. وكذلك سنوات استعمار فلسطين، أو كما كان يحلو لهم تسميته بالانتداب (1920 ـ 1948) الذي استمر حتى تنفيذ ذاك الوعد المشؤوم وقيام دولة الكيان الصهيوني التي اعلنت في 14 مايو 1948. ويضاف الى تاريخها الاسود طبعا العدوان الثلاثي على مصر بالتآمر أيضا مع فرنسا واسرائيل، وصولا الى الحرب الظالمة والمدمرة على العراق شعبا وارضا عام 2003، التي تآمر فيها رئيس وزرائها آنذاك توني بلير مع الرئيس الامريكي جورج بوش الابن، تلك الحرب التي رغم مرور14 عاما عليها، لم يتوقف نزيف الدم والقتل هناك حتى الآن.
وعودة الى ما بدأنا به.. ففي خطوة تعكس الانتهازية التي تنطلق منها المواقف البريطانية، اتخذت حكومة لندن بعد أسابيع معدودة فقط من تصويتها في مجلس الأمن الدولي، لصالح قرار يدين الاستيطان الاستعماري في الضفة بما فيها القدس الشرقية، اتخذت موقفا مغايرا جدا في مؤتمر باريس للسلام انعكس في مستوى تمثيلها الذي اقتصر على موظف صغير في وزارة الخارجية، ورفضها التوقيع على البيان الختامي للمؤتمر. وحالت بريطانيا دون تبني مجلس وزراء خارجية الاتحاد لبيان باريس. وبررت موقفها بأن ما جاء في البيان يمكن أن يزيد من تعنت الجانب الفلسطيني، في أي مفاوضات مستقبلية، وسبب ثان أن المؤتمر عقد دون رضا وموافقة اسرائيل، وثالثا قبل عدة ايام من تنصيب الرئيس الأمريكي الجديد.
ولن اجد ابلغ مما قاله دبلوماسي اوروبي لصحيفة "هآرتس" معقبا على هذا الموقف الذي أقل ما يقال فيه انه موقف انتهازي، بالقول إن "السلوك البريطاني تدفعه الرغبة بالتملق للرئيس الامريكي الجديد دونالد ترامب. فقد قال ترامب امس في لقاء مع صحيفة "تايمز" اللندنية انه يتوقع من بريطانيا معارضة كل قرار مستقبلي ضد اسرائيل في مجلس الامن. وقد قرأت بريطانيا التصريح ونفذته على الفور". واضاف الدبلوماسي: “هذا جنون، فقبل ثلاثة اسابيع فقط دفعت بريطانيا قرار مجلس الامن 2334 في موضوع المستوطنات وصوتت ألى جانبه، والآن ترفض إصدار قرار في الموضوع نفسه في مجلس وزراء خارجية الاتحاد الاوروبي. مع كل الاحترام للبريطانيين لا يمكن إدارة سياسة خارجية بناء على تغريد احد ما في تويتر". (في اشارة إلى تغريدات ترامب في ساعات الفجر الاخيرة.
وكأن ما تقدم ليس كافيا للتكفير عن "غلطتها" في مجلس الامن امام اسرائيل وترامب، فقررت تريزا ماي ان تنأى بنفسها عما جاء في خطاب وزير الخارجية الامريكي جون كيري، الاخير الذي قدم فيه رؤية بارك اوباما لتسوية الصراع، وهي الرؤية التي لاقت قبولا لدى معظم دول العالم منها كندا وألمانيا وفرنسا. واعترضت وزارة خارجية تيريزا ماي على وصف كيري لحكومة نتنياهو بانها الاكثر يمينية في تاريخ اسرائيل، وتركيزه على المستوطنات كعقبة امام التسوية السلمية. وقالت في بيان لها حول الموضوع "نحن لا نظن أن من اللياقة مهاجمة تركيبة حكومة دولة حليفة منتخبة ديمقراطيا". وجاء في بيان لها "رؤيتنا واضحة ان المستوطنات ليست العقبة الوحيدة في هذه الازمة وان شعب اسرائيل يستحق العيش بعيدا عن تهديد الارهاب"، متجاهلة دور الاحتلال وارهاب الدولة، وكأن لسان حالها يقول إن الشعب الفلسطيني هو المعتدي وهو لا يستحق العيش بسلام وأمان وحرية فوق 22% من ارضه التاريخية.
المنطق البريطاني يسمح لاسرائيل بان يكون لديها حكومة (ديمقراطية) يمينية عنصرية ترفض السلام ولا تعترف بالحق الفلسطيني، حتى في الضفة الغربية، وتحرض على قتل العرب، بينما في المقابل رفضت حكومة فلسطينية جاءت ايضا عبر صناديق الاقتراع وبشهادة دولية، وفرضت عليها شروطا للقبول بها.
وكما أسلفنا رأى بعض المعلقين في الموقف البريطاني تملقا للادارة المقبلة، ومحاولة لبناء الجسور معها، وبالفعل نجحت تيريزا ماي التي تواجه مشاكل في تنفيذ نتائج القرار الشعبي بالانفصال عن الاتحاد الاوروبي، في ان تكون اول زعيم دولي يستقبله الرئيس الجديد في البيت الابيض (تم اللقاء امس) وربما الحصول على امتيازات تجارية خاصة.
يتزامن هذا الولاء لاسرائيل مع الفضيحة التي كشفت عنها قناة الجزيرة حول تورط مسؤول في سفارة اسرائيل في مؤامرات للاطاحة بوزراء في حكومة تريزا، وبينت عمق النفوذ والتغلغل الصهيوني في السياسة البريطانية وتحكمه فيها. وتتصرف الحكومة وكأن شيئا لم يكن، وتتجاهل الطلبات الرسمية المتصاعدة بالتحقيق، سواء من زعيم حزب العمال جيريمي كوربين، أو من شخصيات كبيرة في حزب المحافظين الحاكم.

علي الصالح
كاتب فلسطيني من أسرة "القدس العربي"