خمسة وأربعون رئيسًا للولايات المتحدة الأمريكية، وتاريخ طويل في المنطقة العربية، والقضية الفلسطينية حيث جاءت معظم التحليلات والتنبؤات حول تقلد ترامب الولاية الرئاسية الجديدة دون العودة إلى قراءة تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، وسياساتها في المنطقة عامة، وحول القضية الفلسطينية خاصة وهذا نتاج إننا نعتمد على الفهلوة وكثر الكلام في سرقة أذهان المستمع، والقارئ، دون تقديم شيء علمي، وهو ركيزة وأساس الإستقراء الذي يمكن عليه البناء، فهل من المعقول بعد خمسة وأربعين رئيس نعيد إنتاج نفس التحليل والتنبؤ إستنادصا للتمني، فلا بد من الإنطلاق من سؤال في غرفة مغلقة مع أنفسنا هل الفرد يغير في الإستراتيجية أم العكس؟ فالولايات المتحدة ليست دولة أبوية تعتمد على الفرد حسب الفهم العربي للسياسة والحكم، فهي دولة مؤسسات، وذات حكم عميق يعتمد على التخطيط الإستراتيجي الذي يرتكز للأمن القومي والمصالح العالمية، وليس رغبات وأهواء فرد ما لديه جيش من المتشاورين، والمخططون على كافة الأصعدة، مع التأكيد على دور هذا الفرد في بعض السياسات والإتتجاهات ولكن التي لا تمس بالمصلحة العامة، والأمن القومي، والإستراتيجية العامة.
لقد لوح المرشح الجمهوري في حملته الدعائية بأنه سيدعم إسرائيل، وكأنه جاء بالجديد في هذا التصريح، أو أنه انحرف في التخطيط الإستراتيجي الأمريكي الذي تعتبر إسرائيل ولايتها الواحدة والخمسون، وهي الروح الفعلية لدولة الكيان الصهيوني ثم عرج على نقل السفارة الأمريكية، إلى القدس في عملية استقطابية انتخابية تتعارض مع سياسة الولايات المتحدة الأمريكية، ومع المقررات الدولية حول المدينة المقدسة، وهو التصريح الذي لن يغير شيئًا في الواقع، حتى وأن انتقلت السفارة إلى القدس، ماذا سيغير هذا في الواقع، فالقدس تحت الإحتلال الذي يغير من ملامحها يوميًا، ومعظم صناعة القراء منها، وفلسطين عامة تحت الإحتلال، فما يضير الشاه سلخها بعد ذبحها، ورغم ذلك سرعان ما أعلن ترامب عن تأجيل القرار، وهو التأجيل الذي اعتمد على وجهة نظر أمنية امريكية- إسرائيلية التي ندرك أن نقل السفارة في هذه المرحلة مخاطرة أضعاف فوائده، وربما يتحول إلى صراع شعبي في الضفة الغربية إسرائيل في غنى عنه، وليس لأسباب أخرى، وكذلك الأمر فيما يتعلق بالإستيطان الملف الأخر الذي اتخذته إسرائيل كالعادة وسيلة هجوم على ترامب، واحد الملفات التي تسعى للإبتزاز السياسي والمالي من خلالها للولايات المتحدة الأمريكية، وهو سياسة قديمة- جديدة تمارسها إسرائيل مع حليفها وركيزتها الولايات المتحدة الأمريكية التي لا يمكن لها مهما كان رئيسها أن تدعم الإستيطان علنًا بما فيه تجاوزًا عن مبادئ الولايات المتحدة الأمريكية وتكتيكها السياسي الذي تسوقه للعرب بين الفنية والأخرى.
أن الحكم على الأمور لا يتم وفق سياسة الفضفضة والتفريغ النفسي والكلامي، بل هو نتيجة عميقة في الإستراتيجية العامة للولايات المتحدة الأمريكية وسياساتها الإستراتيجية الثابتة في المنطقة، التي تحتكم لمؤسسات عميقة.
عليه فإن ولاية الرئيس ترامب هي ولاية تجديدية لمن سبقه، ولن تغير في الفهم الجوهري الإستراتيجي للولايات المتحدة الأمريكية، رغم أن عملية تغيير هي بكل تاكيد ايجابية لأنها ربما تحدث زلزال في الوعي الشعبي العربي الذي استسلم لإدعاءات البعض بأن الولايات المتحدة تسعى لحقوق الإنسان في العراق وسوريا وليبيا واليمن، وأنها حريصة على حقوق الشعب الفلسطيني الذي يرزح تحت نير الإحتلال منذ أكثر من نصف قرن- ولازال.
الأمر الأخر يمكن قراءته هو الثابت الذي لا يمكن القفز عنه أن الملف الفلسطيني لا يمكن تجزئته أو تقطيعه لقطع، وكانت اتفاقية أوسلو 1994 هي المثال الأكثر وضوحًا بأن مجرد تقطيع وتجزيئ هذا الملف هو الفشل، ومجرد إلتفاف ومماطلة سياسة، وابتزاز سياسي لا يتعدى ذلك، فالملف الفلسطيني لا يمكن حله أو وضع حلول نهائية له إن لم يتم التعامل معه ككل متكامل، ويعالج جوهريًا وضع اللاجئين بالداخل والخارج، من خلال حق العودة، وقضية حدود الدولة الفلسطينية الجيوسياسية، وسلطاتها، وقضية القدس والمقدسات الدينية ...إلخ من القضايا الأساسية.
الفهم العام أن الولايات المتحدة الأمريكية دولة كبيرة لديها سياسات استراتيجية لا يمكن لفرد تغييرها لانها دولة مؤسسات تعتمد على النظام الديمقراطي العميق، ودولة عميقة أمنيًا وسياسيًا واقتصاديًا.
د.سامي الأخرس
28/1/2017