تحولات سريعة وعميقة تجري بالعالم، وعلينا تحديد موقعنا منها، وخصوصا بعد وصول المحافظين الجدد للسلطة بأمبركا وتحكمهم بمقاليدها كليا بعد أن كان لهم نصيب مؤثر ولكن ليس طاغيا في ادارات جمهورية سابقة، وبروز نزعتهم العنصرية والتطرف في الحملة الانتخابية والتي اتسمت بطابع الفاشية الجديدة أحيانا كثيرة، خصوصا تجاه الملونين والمهاجرين والمسلمين.
والواضح أن هذه الإدارة والتي توصف بالترامبية قياسا للريغانية في ثمانينيات القرن الماضي واللتين تحملان سمات مشتركة، قد حددت أولوياتها الصلاحية كما تصفها بالانكفاء للداخل ومحاولة إنقاذ الاقتصاد الأميركي المنهك بالديون التي تجاوزت 22 تريليون دولار، منها 9 تريليونات بعهد الرئيس السابق اوباما، وهذه الديون نتاج طبيعي لسياسة القطب الأوحد عالميا والذي تولت فيه اميركا منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وسقوط القطبية الثنائية دور شرطي العالم، وتصدت وحدها لازماته المتلاحقة وخلقت سياسات الولايات المتحدة المنفردة الكثير من الويلات والدمار بالعالم وخصوصا بالمنطقة العربية.
لذلك فإن سياسة الانكفاء الحمائي الداخلي تستهدف انعاش الاقتصاد الاميركي في الوقت الذي قطع فيه العالم نحو عقدين من العولمة والانفتاح، ويعتقد ترامب ان التخلص من بعض الاتفاقيات الاقتصادية والتجارية قد يسهم في محاولات الانعاش هذه لكنه لا يقدر حجم الارباك بالعلاقات الاقتصادية الدولية وآثارها السلبية اللاحقة، كما ان الاعلان عن تخفيض الالتزامات تجاه حلف الناتو للتخفيف من الأزمة المالية وتحميل الحلفاء في اوروبا والشرق الاوسط ثمن حمايتهم، لاعتقاده ان هذه الخطوات قد تخفف من الاعباء المالية المتزايدة وتسهم في إنعاش الاقتصاد المحلي من جهة أخرى.
ما يعني بالاستنتاج الاولي وكنتاج طبيعي لهذه السياسة، أن عالما متعدد الأقطاب قيد التشكل تكون روسيا والصين إحدى دعائمه نظرا للنمو المتصاعد باقتصادياتهم ولزيادة وزنهم ونفوذهم في العديد من المناطق، مع تراجع ملحوظ في الدور الاميركي ابان المرحلة السابقة، وقد كان من المفترض أن تكون أوروبا الطرف الرابع لهذه التعددية القطبية لكن الاتحاد الأوروبي انشغل بمشاكله الداخلية وازدادت أزمته بعد انسحاب بريطانيا، وتفاقم الصراع على الهوية، ما قد يشجع أطرافا أخرى للانسحاب خصوصا مع تزايد شعبية القوى اليمينية الشعبوية المتطرفة في أوروبا التي تتبنى ذات السياسات الترامبية من حيث المضمون مع تغير بالشكل.
ما يهمنا في هذه القراءة موقف ترامب تجاه الشرق الاوسط والقضية الفلسطينية والذي تميز بعكس كل الإدارات السابقة، واخذ منحى ظهر فيه ابان الحملة الانتخابية مقدار عالٍ من التطابق سياسيا مع الائتلاف اليمني العنصري الحاكم في إسرائيل، وهذا التطابق اخذ منحى بدا مختلفا عن الادارات السابقة بما فيها الجمهورية خصوصا، فيما يتعلق بالقدس واعتبارها غير محتلة ولذلك كان نقل السفارة للقدس جزءا من الحملة الانتخابية، وان تراجع التنفيذ الآن فإن هذا لايعني بالمعنى السياسي ان هذا التطابق بالموقف قد تغير الى غير رجعة، وايضا الموقف من الاستيطان باعتباره لا يعيق عملية السلام، وانه من غير الواقعي تحقيق حل الدولتين.
ترافق وسبق هذا المتغير وان كان نتاجا ايضا للسياسة الاميركية العبثية، انهيار وتفتت منظومة العمل العربي المشترك، وفي المقدمة منه الامن القومي الذي ولد انشغال كل بلد بأزماته المتصاعدة جراء تفاعلات الربيع العربي وتداعياته على البلدان العربية، والذي بدوره خلق اوضاعا تبدلت الأولويات لديه، وأصبحت إسرائيل حليفا محتملا ومقبولا في مواجهة واحتواء نفوذ ايران بالمنطقة ومكافحة الإرهاب الذي بات مصدر قلق دوليا.
أمام هذه الصورة التي قد يعتبرها البعض قاتمة، نرى انه رغم هذه التحديات الكبيرة من الممكن توليد فرص واستثمارها والبناء عليها لتثبيت اولوية القضية الفلسطينية اقليميا ودوليا، واشتقاق سياسات واقعية وعملية ملموسة تخدم هذا الهدف:
أن تزايد الحضور الروسي مع تراجع أميركي ملموس قد يتزايد جراء السياسة الانكفائية للادارة الجديدة، وبدايات تشكل عالم متعدد الأقطاب من شأنه أن يعيد حالة التوازن المختلة بالعلاقات السياسية الدولية وبالطبع بالمنطقة العربية ويشكل عامل إسناد للقضية الفلسطينية، وخصوصا في ظل ما تتمتع به روسيا من علاقات جيدة مع إسرائيل.
مع تسلم ترامب مقاليد السلطة وانشغاله بترتيب ادارته الجديدة، التي قد تستغرق زمنا يصعب تقديره، اضافة الى تحديد اولوياتها خلال المائة يوم الاولى من عملها، والتي سيتضح طابعها البراغماتي والذي من الممكن توظيفه، فإن التحرك بالساحة الاميركية مع كل الاطراف بما فيها الايباك وقنوات الضغط الاخرى، والتواصل مع الادارة الجديدة بالوسائل الرسمية وغير الرسمية عبر طواقم عمل فلسطينية جديدة، لمحاولة التأثير واعطاء صورة مغايرة تفرمل من سرعة الانزياح والتطابق مع اسرائيل، وبما يمكن العودة ان امكن الى موقف متوازن اساسه توازن المصالح مع دول المنطقة، ازاء اسس الصراع والتسوية بالمنطقة، والاهم عدم ترك الميدان خاليا لنتنياهو لما يحاول رسمه وترسيخه لدى الادارة الجديدة.
البناء على الموقف الاوروبي الذي يعبر عن مخاوفه وعدم اتفاقه من سياسات ترامب الاقتصادية والسياسية ورفضه المبدئي لنقل السفارة الاميركية للقدس، وكذلك بمساندته ودعمه للمبادرة الفرنسية ومشاركته لمؤتمر السلام الذي عقد بباريس، الذي بمجرد عقده اوصل رسالته بأهمية واولوية حل الصراع بالشرق الاوسط على قاعدة انهاء الاحتلال واقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على اساس تطبيق قرارات الشرعية الدولية.
رغم صعوبة وتعقيد الوضع العربي وعمق الانقسام الذي يضرب العمل العربي المشترك، إلا أننا نعتقد أنه مازال بالامكان اعتبار مبادرة السلام العربية اساسا وقاعدة للموقف الرسمي المشترك للوصول للسلام الدائم والشامل بالمنطقة، خصوصا بعد فشل محاولات تعديل مبادرة السلام العربية لقلبها بالبدء بالتطبيع قبل الانسحاب.
يحاول البعض فلسطينيا وفي هذا المناخ المتغير الوصول لاستنتاجات تؤدي إلى الخلط بين الهدف والوسائل، فهدفنا كان وما زال إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود الرابع من حزيران وعاصمتها القدس وتأمين حق العودة، وإذا تعثر الوصول للهدف بالعملية السلمية والمفاوضات، وهي وسيلة وليست هدفا بحد ذاته، فإن هذا لا يعني بأي حال من الأحوال تغيير أهدافنا، والتخلي عن هدف اقامة الدولة الفلسطينية المستقلة التي نلنا دعم واعتراف العالم بنا، وبها على هذا الأساس، وليس على أساس سياسي آخر.
ان الرهان على تطوير العامل الذاتي الفلسطيني، بالذهاب مباشرة لتعزيز أوضاعنا الداخلية عبر تشكيل حكومة وحدة وطنية كاملة الصلاحيات في غزة والضفة، تنهي الانقسام وتعيد بناء النظام السياسي الفلسطيني، بعقد دورة للمجلس الوطني الفلسطيني تجدد الشرعيات الوطنية وتحصنها بعملية ديمقراطية حقيقية، في اطار منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، على أساس برنامج سياسي واقعي وملموس يقوم على اساس مبادرة السلام العربية وقرارات الشرعية الدولية.
ان من شأن خطوات كهذه ان تسلح اشقاءنا العرب وروسيا وأصدقاءنا في العالم بوحدتنا وتسحب الذرائع من ايدي الذين يشككون بمن يمثل الفلسطينيين ويستخدمونها ذريعة للتنصل من التزاماتهم اتجاه اي عملية سياسية.
إن خطوات كهذه ينبغي ان تترافق كذلك مع العمل مع قوى السلام الاسرائيلية لاستنهاض معسكر السلام في إسرائيل باعتباره احدى الأدوات لفرملة الانزياح المتسارع في اسرائيل الدولة القائمة بالاحتلال لاراضي دولة فلسطين نحو العنصرية والفاشية، ولاستعادة حل الدولتين كأساس سياسي يحقق الامن والسلام والاستقرار في المنطقة.
بقلم/ د. أحمد مجدلاني