"بر وبحر" من يجرؤ على الملام؟
جواد بولس
منذ بدء عرض فيلم "بر وبحر" للمخرجة ميسلون حمود في قاعات السينما لم يتوقف النقاش حوله. بل بدت كمية النار التي استجلبتها قصته وكأنها غير مسبوقة في عالم صناعة سينمانا المحلية، على تواضع تاريخها ودفقها، علمًا بأن بعض تلك النيران أشعلتها فئات وشخصيات لم تشاهد الفيلم على الإطلاق، واكتفت بتدعيم نداءاتها الشاجبة والمتوعدة وبياناتها المشهرة، بما نقل اليهم شفاهة، أو قرأوه في السجالات السريعة الذوبان التي يذريها على بيادر الصفحات الاجتماعية جيل ما زال بعض أفراده يسعى وراء فكرة عصية، ويحلم بعش من شوك، ويشقى من أجل مصير، وهم في كل ذلك لا على بر ولا على بحر.
من تخيّل أن تكون ردات فعل أكثرية أبناء مجتمعنا العربي المحلي مغايرة لما شاهدناه وقرأناه كان واهمًا أو غافلا، ومن ترقب أن يجترح الفيلم حوارا "حضاريا"، كما يتوقع أن تتصرف أقلية تتصارع بين ظهرانيها عدة عوامل وقوى، تحاول نحت وصقل هوية أفرادها الجمعية كل على صورة ناحِتها ومثاله، أخطأوا، لأنهم لم ينتبهوا لولادة أجيال ونشوئها بينهم وإصرارها ألا تكون مثلهم، وعلى ألا تعيش في فقاعات مجتمعاتهم الهشة التي أسكرتها قهقهات السكاكين، وأوجع لياليها بكاء النايات وهي تداس تحت أقدام محترفي الكذب والرياء والمكابرات القاتلة. تلك أجيال جاءت إلى هذه الدنيا فوجدت نفوسها تدجن في حضن الضياع، وتهندس وفقًا لقواعد وضعها فرسان الأرض السمراء، وقد ورثوا بأسهم، الذكر، من سطوة عشيقتهم الأولى، الصحراء، التي روضوها حين كانت أنثاهم الشقية، وعشقوها متواطئين مع غيرتها واشتراطها ألا يبقوا الحرائر طليقات، بل يأخذوهن معهم سبايا ولهم مطايا ومحظيات.
إنه جيل "المفارق" الواسعة وعشاق محطات الالتباس المبهر ومسارات المجازات الساحرة، فلقد ولدوا وهم بكامل آدميتهم، وإذ بها تتناقص، ضلعًا بعد ضلع، مع كل يوم يمر ويمضي، وحين مرت على البلاد غيمة العرب اللقيطة؟ تمردوا وصرخوا مثل إخوتهم العرب: "كفاية" وتدافعوا نحو خطوط التماس، حيث الشمس لا تغيب، ولا يطل القمر إلا في النبيذ والنشيد والدخان، وعاموا في عوالم بلا شطآن وديعة، وطفقوا يبحثون عن أحزمة للأمان، وكأني أخشى عليهم وقد ابتعدوا عن تيه، فلجأوا إلى ضباب أو سراب.
أعجب ممن فتشوا عن لغة للتفاهم والتصالح مع تلك المجتمعات في فيلم المخرجة ميسلون المبدعة الواعية، ابنة دير- حنا، تلك القرية التي عرفت من النضال أحمره، واستغرب ممن حاولوا تخفيف أو تحريف وقع الصعقة التي اخترقت أبداننا مع أول دائرة دخان حررتها ليلى (منى حوا) المحامية الشابة المدنية العنيدة الساحرة، من سيجارتها المستوطنة، باستفزاز لا يهدأ، فمها المليح القوي الصارم، فمن لم يشعر وكأنه ركب على قطار الجبال السريع ويهبط مع كل مشهد إلى هاويته هو، عليه العودة إلى بر الفيلم أو بحره، مرة أخرى، ويفتش في المشاهد عن شهقة سقطت من "نور"، الأبية الحريصة الصامدة، ابنة أم الفحم (شادن قنبورة) أو على رمش حائر من عيون سلمى الترشحانية، المتصالحة مع نفسها الكادحة الصبورة (سناء جمالية)، حين كسته دموع خسارتها المحزنة.. فمن لم توعِّه تلك الصعقة فليعد عساه يكتشف العيون الظمأى واللغة التي لا تشبه لغتنا، لأنها بنت الصدمات والمنافي الاختيارية والحقيقة وهي تضرب خديك بأقوى من كف المسيح وتصرخ فينا: لا نريد منكم شيئا أيها الرجال إلا أن تعترفوا بنا إناثًا وناسًا وبشرًا كاملات، إن شئنا أحببنا، وإن اهتدينا اعتلينا وإن عشقنا فمتنا، إن متنا وصلنا وإن وصلنا وصلنا، اتركوا لنا مجد أجسادنا ونور عقولنا وخذوا ما شئتم من زبد البحر وغرور السرو، دعوا تفاهاتكم عند رصيف الميناء المهجور، وعانقوا بهاء نصول سيوفكم على الخصور، ولكن اتركوا لنا زهو البساتين نربي فيها رماننا وسواسننا.
لغة غير لكناء واضحة بسببها حاول البعض أن يهجم على الفيلم مجندين الجغرافيا والدين والقبلية البلدية، فمنهم من اتهم المخرجة بأنها تعمدت المس بمدينة أم الفحم وأهلها وقيمها، لكنها برأيي تهمة غير صحيحة، بل قد يكون العكس صحيحا، "فنور" الفتاة المحافظة لعبت دورًا مميزًا ولافتًا حافظت من خلاله على معتقداتها، كما تؤمن بها هي، وهي الطالبة النجيبة الرصينة التي كانت تدرس في الجامعة علوم الحاسوب، ورغم ما واجهته من "صدمة ثقافية" وأجواء غريبة على تربيتها المحافظة، لم تتخل عن تدينها وصانت مكانة وسمعة عائلتها التي أحبتها وبقيت على حبها. بالمقابل قد نجد في تصرف وسام، وهو خطيب نور إساءةً ذكورية لها أولا وأخيرا ولنفسه ولطريقة تدينه، وليس لدينه، وهو الذي لم يقاوم غريزته الذكورية، على الرغم من كونه داعية وناشطًا اجتماعيًا، وقام باغتصاب خطيبته بمسكنها المشترك مع صديقاتها، ثم عاد إلى حياته الطبيعية وكأن شيئًا لم يكن، بل تفاعل مع إغواء "ليلى" صديقة نور التي اتهمها وسلمى، بسبب طريقة عيشهما المنفتح، بأنهما ساقطتان، فاوقعنه معًا وخيّرنه – إما الفضيحة، وإما أن يترك نور لنفسها، لأنها لم تعد تحبه خاصة بعد اغتصابها.
من ينوي مهاجمة الفيلم بسبب ما يقدمه في وجوهنا من واقع ومآسٍ، فسيجد الأسباب لذلك لأنه، كما قلت، فيلمنا لا يتحدث بلغة المجتمع السائدة، فلغة الناس، مثلهم، لعوب تمثل من يتحكموا في رقبة الحياة وخصر الموت والمنتشرين في جميع مراكز القوى الذكورية المتسلطة على كل مقاليد الحكم: العائلية، الدينية، التجارية، السياسية والاجتماعية، ومنها يديرون حيوات النساء- رغم أنهم لا يقرون بذلك على الملأ، بل يدعي معظمهم العكس، لكنهم يصيرون ساعة الجد سواسية في العنف والزجر وأكثر.
فها هو زياد صديق ليلى المنفتح تفضحه الصدفة حين تجيء بمذاق عربي سخيف، وقد كانا يعيشان هو وليلى كحبيبين مثاليين، يفعل ما تفعل وتفعل ما يفعل، إلى أن شاءت الظروف أن تلتقي ليلى بأخته التي وصلت إلى تل أبيب سعيًا لتحرير ابنها وزوجها بعد اعتقالهما في الشرطة بسبب حيازتهما للحشيش، لكنها عندما رأت ليلى تشعل سيجارتها، كالرجال، احتجت أمام أخيها، على تصرفها غير اللائق، وحرضته عليها، فسارع بتوبيخها ومطالبتها بتغيير نهج حياتها، لأن مجتمع الطيبة، بلده، لا يشبه مجتمع تل أبيب. مثله فعل أبو جورج المسيحي الترشحاني عندما اكتشف وزوجته أن ابنتهم سلمى، سحاقية وأن من ترافقها في زيارة البيت هي عشيقتها. صدمت العائلة، وهاج ربها، فطردوا الضيفة في الليل، وقام الأب بصفع ابنته وحبسها في غرفتها حتى تبرأ من مرضها.
كل من هاجم الفيلم متكئًا على توظيف الجغرافية أو دين البطلات والأبطال يكون قد تذرّع مستجيرًا بأهون سلاحين رائجين بين الجماهير العربية: الدين والبلد، فالحقيقة هي أن لغة الفيلم هي لغة السينما الواقعية، وبالتالي فكل شخصية من الشخوص فيه "تركب" وموجودة في كل قرية ومدينة وفي كل دين، فأكثرية أفراد مجتمعاتنا كانوا سيتصرفون مثل أبي جورج لو علموا بأن ابنتهم سحاقية أو ابنهم مثليّ، وكثيرون من شباب قرانا كانوا سيتصرفون مثل زياد ويطالبون رفيقتهم بتغيير حياتها، إذا ما أرادت أن تعيش في بلده وبين أهله، وكثيرون مثل وسام يسمحون لأنفسهم بارتكاب "السبعة وأكثر" ويتحولون إلى جزارين ضد أخواتهم وحبيباتهم.
هذه هي أهم رسائل هذا الفيلم الجميل مع أنه يتضمن عدة حبكات لا مجال لذكرها هنا ومشاهد تشكل سوابق لا تخلو من الجرأة، خاصة مشهد الاغتصاب المفجع وحياة الشباب في فضاءات تل ابيب الباهرة. في أحد تعريفاته عن الشعر وأبسطه – قال مرة محمود درويش: الشعر هو ذلك النص الذي إن أنهيته صرخت هذا شعر وباستعارة منه سأقول بعدما أنهيت مشاهدتي للفيلم صرخت بملء الفم "هذا هو الفيلم"، فلقد أجبرتني بطلاته الثلاث أن أحبهن فلقد قاموا بأدوارهن بمهنية مقنعة، وكأنهن يعشن حياتهن الطبيعية. تماثلت معهن حتى عندما مارسن أعمالاً مستفزة وألفاظًا نابية تمطها المخرجة أحيانا إلى أبعد الحدود متعمدة توظيف هذه التقنية لإخراج خالص القهر والغضب من دواخلنا، سواء للتماثل معهن أو لرؤية أحلامهن ومآسيهن.
تحاول أن تبتعد عنهن، تحزن، تتماثل معهن وأخيرًا تحبهن، لأنك ترى كيف تصارع كل واحدة منهن مجتمعًا قاسيًا مداهنًا لعوبًا يحمي الذكورية حتى عندما تبطش أو تعتدي. لقد اختلفت جبهات معاركهن، لكن النتيجة بقيت واحدة فليلى تطرد زياد "التافه" من سيارتها بعدما عرت زيفه وفضحت ذلك الذئب الشرقي الساكن في عقله، والمتربص تحت حاجبه الحاجز، وسلمى تترك بيت والدها وتعود إلى تل ابيب لتقابل حبيبتها مؤكدة أنها ستسافر إلى برلين وراء مستقبل ملتبس آخر، ونور تبقى تلك الفتاة المتدينة على طريقتها وتحب عائلتها وصديقتيها وكانت قد رفضت أن يعرفهما المغتصب بالعاهرات.
لم يدر بخلد صاحبة الفكرة أن تخرج عملاً دعويًا يروج لعقيدة ومبادئ دوغمائية محنطة، وهي لم تهدف إلى أن تقوم بدور "معلمة الأجيال" التي ترسم لطلابها الكسالى أو النبهاء معالم الطريق واحتمالات حل معادلات اجتماعية معقدة ومتعددة المجاهيل، فكل ما هدتنا إياه كان قطعة مستفزة جميلة حزينة ناصعة عاصفة مثيرة واقعية حالمة تضاهي بها أفلام الأمم لأنها ببساطة: إبداع فني راق. في الحقيقة وفي أقل من شهرين شاهدت ثلاثة أفلام صنعت محليًا كان أولها "مفرق 48" للفنان المميز تامر نفار الذي تحدث عن مدينته اللد ومأساتها من خلال قصته الفريدة، تلاه فيلم للمخرجة النصراوية الفذة مها الحج التي روت قصة عائلة نصراوية تواجه تعقيدات الحياة بسأمها وجمالها من "أمور شخصية"، وآخرها كان هذا المسك الذي ضوعته ميسلون ونثرته من خلال عيون جميلات الجليل والكرمل والمثلث ومن على صدور فرسان هذا الزمن الذي وعلى رغم ما فيه من رداءة ما انفك يزودنا ببعض من صناع الجمال والحب والأمل المنشود.
جواد بولس
كاتب فلسطيني