قُدر لي أن ألتقي المحامي الأستاذ إبراهيم محمد السقا في يوم ماطر من شهر كانون الثاني 2017م في مكتبه بشارع البحر في مدينة خان يونس، فقابلني بتلك الابتسامة الرقيقة البسيطة، فهو إنسان قبل أن يكون محامياً، تجلس معه، فترتاح نفسك لملاقاته وحسن استقباله، وتضفي ملامحه الجادة دائماً على شخصيته ارتياحاً لدى كل مَن عرفه، فتتنمى أن يطول اللقاء، وأن يستمر الحديث إلى ما لا نهاية.
وأجريتُ معه حديثاً مستفيضاً اتسم بالصراحة والجرأة متحدثاً عن حياته، وعن الأوضاع البائسة التي يعيشها عموم أبناء الشعب الفلسطيني على اختلاف طبقاتهم وفئاتهم، وشعورهم الجارف بالحرقة لفقدان النصير في ظل الأزمات والمشاكل التي تعصف بالشعب الفلسطيني، وخاصة الأهالي في قطاع غزة في ظل استمرار الحصار الخانق، والانقسام البغيض، وغياب المصالحة الحقيقية على أرض الواقع.
لذا، فالأستاذ إبراهيم السقا يستحق أن نطيل الوقوف بعض الشيء أمام الوجه الناصع والمشرق من مسيرة حياته، وما كان من أحداث تلك الفترة، حيث ولد الأستاذ إبراهيم السقا في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر عام 1930م في مدينة خان يونس، وكانت البلاد ومعظم دول الشرق العربي وقتها تئن هواناً وعسفاً وفقراً تحت وطأة الاستعمار البريطاني، وفي هذا السياق لا ينسى الأستاذ إبراهيم أن يشير إلى فضل والدته: (حسيبة مصطفى البطة) التي أحاطته برعاية الأم الرؤوم، وربته على الأخلاق الحميدة، ودفعته على العمل بشرف وأمانة وعصامية).
وتلقى الأستاذ إبراهيم السقا دراسته الابتدائية في مدرسة خان يونس للبنين، وهي المدرسة الوحيدة في المدينة وقتئذ، ثم انتقل إلى مدينة القدس، ليواصل دراسته الثانوية في كلية الروضة الوطنية، وقد أنهى فيها الصفين الأول والثاني الثانوي، ثم عاد إلى مدينة غزة، ليكمل دراسته الثانوية في القسم الأدبي في مدرسة الإمام الشافعي في عهد مديرها المربي الكبير "ممدوح الخالدي"، ولعلَّ من الوفاء أن يذكر الأستاذ إبراهيم السقا جهود هذا المربي الدؤوبة قائلاً: (لا يمكن اختزال الأستاذ ممدوح الخالدي بعبارة، كالعبارات التي يرددها الناس، عندما يأتي ذكر أستاذ لهم، مثل بيت شوقي: "كاد المعلم أن يكون رسولا"، بل كان الأستاذ ممدوح الخالدي مربياً بارعاً مدركاً لأهمية تنمية الملكات المختلفة في طلابه، فاكتسب محبتهم وتقديرهم).
انتُخب الأستاذ إبراهيم السقا من بين جميع تلاميذ المدارس الثانوية في قطاع غزة، ليلتحق بالكلية العربية في القدس نظراً لتفوقه، حيث كانت حكومة الانتداب تنتقي خيرة الطلبة، وتلحقهم بها، والكلية العربية المشهورة التي يلتحق بها خريجو المدارس الثانوية والابتدائية الذين يقع عليهم الاختيار، لإكمال دراسته الثانوية، وفي ذلك يقول الأستاذ إبراهيم السقا: (وكنا، ونحن نستعد للتقدم للامتحان النهائي، للحصول على شهادة الاجتياز إلى التعليم العالي "المتريكوليشن" صادف ذلك الوقت خروج السلطات البريطانية من فلسطين في 15 أيار/ مايو عام 1948م، ولمّا تسلم المصريون إدارة الحكم في قطاع غزة عقدوا لنا لجنة للامتحان، فتقدمت له، ونجحت في صيف عام 1948م).
وكان باستطاعة الأستاذ إبراهيم السقا بشهادة (المتريكوليشن) الالتحاق بوظيفة حكومية، لكنه آثر أن يسلك سبيل التخصص العلمي، فغادر غزة يدفعه العزم والأمل، ميمماً وجهه شطر مصر العروبة، والتحق بجامعة فؤاد الأول/ القاهرة حالياً، ودرس الحقوق، وحاز على شهادتها عام 1954م، وكان من زملائه في الدراسة نخبة من الروّاد الذين ذخرت بهم الحياة في شتى الميادين، وهم: (زهير الريس، وإبراهيم الدغمة، وعبد المحسن أبو ميزر).
وبعد تخرجه من الجامعة، عاد الأستاذ إبراهيم السقا إلى مدينته خان يونس، ولم تستهوه الإغراءات المالية للعمل في بلاد النفط، كغيره من الشباب، بل آثر أن يخدم مجتمعه ووطنه، وتدرب على فن وأصول المرافعة والمحاماة في مكتب أشهر المحامين في عهد الادارة المصرية لقطاع غزة، وهو (المحامي أنور عقل).
وفي ميدان العمل اشتغل في مجال المحاماة، وعمل أيضاً في مجال التعليم مدرساً في الفترة المسائية منذ عام 1954م، وقد ساعده في هذا الأمر صديقه الأستاذ خليل عويضة، واستمر على هذه الحال حتى عام 1960م، ليتفرغ لمهنة المحاماة التي أحبها وأعطاها جلّ وقته واهتمامه، فكانت نقطة تحول في حياته وتفكيره، وسرعان ما أصبح اسم إبراهيم السقا معروفاً في الأوساط القانونية، وظل على سجيته في الافصاح عن رأيه بحرية وطلاقة في كل شأن من الشؤون، وهو في هذا كان يمقت التحايل القانوني.
وامتد نشاطه إلي ميادين شتى، فانتخب عضواً في المجلس التشريعي الفلسطيني زمن الإدارة المصرية بدورته الثانية في أوائل الستينيات من القرن العشرين، وتميز بدفاعه عن شعبه، وأسهم في خدمة مجتمعه، وشارك في اجتماعات المجلس الوطني الفلسطيني، منذ دورته الأولى في القدس (28/5 - 2/6/1964م)، لتأسيس منظمة التحرير الفلسطينية، واختير عضواً في المجلس الوطني منذئذ، وحتى يومنا هذا، ومثَّل بلاده مع زملائه زهير الريس، وإبراهيم أبو ستة، وفرج الصراف في اتحاد المحامين العرب، ليُسمع العالم صوت فلسطين، ويظهر مطالبها المشروعة، ويساعد في تحقيق آمالها، واستمر الأستاذ إبراهيم السقا على هذا المنوال حتى حرب عام 1967م، حيث منع الاحتلال الإسرائيلي سفر المحامين.
وكان الأستاذ إبراهيم السقا أحد مؤسسي نقابة المحامين في قطاع غزة عام 1976م، وانتخب نقيباً للمحامين عام 1986م، ولدورة واحدة، خلفاً للمحامي الأستاذ فايز أبو رحمة الذي ظل يشغل هذا المنصب لسنوات طويلة، وشكّل فوزه في الانتخابات نقطة تحول في تاريخ النقابة، وعمل على دعمها مادياً، عندما شحت الأموال لأسباب عدة، كما يقول.
وإذا تبصرنا سيرة حياة الأستاذ إبراهيم السقا، وجدنا أنفسنا أمام شخصية خاضت معركة الحياة بإيمان وعصامية تقفز بصاحبها من مضايقة الأقدار إلى النباهة ورفعة الشأن بعد كفاح طويل مع الأيام؛ حتى أنه قال لي: (لقد أقبلت الدنيا عليَّ، وأعطت، وأفاضت)، فقد كانت نفسه وثيقة بيضاء تنطبع عليها كل الأشياء الجميلة، وعندما اختتمت لقائي معه، أخذني إلى مكتبه، وقال لي: انظر، فشاهدت صورتين، إحداهما للدكتور حيدر عبد الشافي، والثانية للأستاذ موسى عيسى سابا، وهي لفتة طيبة، رأيتُ فيها أنها تحمل كل الحب للمخلصين من قادة وروّاد الشعب الفلسطيني، وقال لي: (إن مواقفهما الوطنية الشجاعة محفورة في ذاكرتي ووجداني).
وفي لحظة صمت لا تخلو من الحزن والأسى اجتاحت الأستاذ إبراهيم السقا حالة من الأسف أثناء حديثي معه، لما آل إليه الفلسطينيون من أوضاع بائسة، حيث ذكر لي معبّراً عن مشاعره، ومختصراً الواقع الفلسطيني بكلمات محددة قائلاً: (كان الفلسطينيون دائماً حاضرين بعطائهم وفكرهم، فقد عمّروا العالم العربي، ولم يستطيعوا أن يعمروا وطنهم، وينقصنا التخطيط، واليهود خططوا لمائة عام، ونحن لا نحسن أن نخطط للغد، بسبب التفرد في السلطة وإتخاذ القرار الفلسطيني، كظاهرة مستشرية في النظام السياسي الفلسطيني).
وفي عام 1958م تزوج السقا من السيدة لمياء عبد الله التاجي الفاروقي، وأنجب منها ولدين وخمس بنات سماهم: (باسم، ومحمد، وجيهان، وغادة، وأماني، وريم، وعبير)، وقد اهتم بتعليمهم تعليما عالياً، فهنيئاً للأستاذ إبراهيم السقا بما حققه من نجاح، ودعوات من القلب لسنوات عديدة قادمة يعيشها، وهو يرفل بالصحة والتوفيق، ليبقى نبراساً وقدوة للأجيال.
بقلم/ نعمان فيصل