الافلاس السياسي العربي : دعوة الأستعمار للعودة ، والمفاضلة بين المُستـَعْمِرين !

بقلم: لبيب قمحاوي

 هل من المعقول أن يقبل العرب بما يجري لهم الآن بصمت مخجل وإنكسار واضح دون سبب جوهري أو قوة طاغية ؟ هل من المعقول أن نشاهد دولاً مثل أمريكا وإيران وتركيا تشترك في احتلال العراق العربي ودولاً مثل روسيا وإيران وتركيا تشترك في احتلال سوريا العربية ، والعرب بعضهم مستمر في إعتبار تلك الدول أو بعضها صديقاً أو حليفاً سياسياً أو مذهبياً ، في حين يناصب البعض الآخر العداء لبعض تلك الدول ولأسباب متباينة .

        ما الذي جرى وحـَوﱠلَ العرب والمسلمين إلى أمم مهزومة تستجدي الدعم والمساعدة من الآخرين وتقدم نفسها وأوطانها قرباناً لمن يرغب من تلك الدول في دخول المستنقع العربي أو الإسلامي .      

        إن مرارة التجربة العربية مع الإستعمار بأشكاله وألوانه المختلفة من عثماني إلى بريطاني وفرنسي وإيطالي وصهيوني وأخيراً أمريكي يتوجب اعتبارها موروثا سلبياً وقاسياً يستدعي المقاومة والإدانة والرفض وليس الإعادة والتكرار . ولكن لماذا يسعى بعض العرب الآن إلى طلب عودة الإستعمار بـِصَورِهِ المختلفة بل والترحيب به بإعتباره

 

 

الأمل والمخرج الوحيد لما يعانيه الوطن من أزمات معظمها صناعة محلية ، متناسين المآسي والآلام والتضحيات التي رافقت حقبة الإستعمار ؟؟

         يعاني الوطن العربي الآن  من حالة من التمزق فاقت تصور وخيال أعدى أعداء الأمة العربية في الوقت الذي لم يسعى العرب فيه إلى إستنهاض قواهم الذاتية لتصحيح هذا الوضع ، بل سعوا منفردين إلى الأستعانة بالأجنبي وبقوى إستعمارية معروفة  لإنقاذهم مما هم فيه وكأن الخلاص فيهم وبهم . ولكن لماذا تسير الأمور بهذه الطريقة ؟

         المفاضلة بين الخضوع السياسي لأمريكا أو روسيا أو الانضواء المذهبي تحت الراية الإيرانية أو التركية مثلاً هو أمر محزن ويبعث على الأسى والغضب في الوقت نفسه ، إذ لا يوجد استعمار أفضل من استعمار ، فكل أنواعه وأشكاله سيئة والمفاضلة هي في نسبة السوء وليس إذا ما كان احدهما جيداً والآخر سيئاً ، أو إذا ما كان كلاهما جيد ولكن أحدهما أفضل من الآخر . فالمفاضلة بين أشكال الإستعمار وأنواعه ظاهرة أصبحت تجتاح العالم العربي الآن وتبعث على الصدمة والحزن الشديدين كونها تعكس حالة الإفلاس السياسي والأخلاقي التي يمر بها هذا العالم .

       إن هذا النهج من التفكير قد أصبح أمراً متعارفاً عليه بين الأنظمة المستبدة ويعكس حالة من الضعف وفقدان الإرادة الذاتية التي تعكس عقلية الفاشل الذي يبحث عن سيد أو بالمفهوم الخليجي "عم"، يوفر الحماية حتى ولو كان ثمن ذلك "مص دماء" طالب الحماية .

      لا يوجد أي نظام حكم على وجه الأرض أهم من الشعب الذي يحكمه و الإدعاء بأن في سلامة النظام سلامة للبلد الذي يحكمه إدعاء باطل ، وهي صفة من صفات الأنظمة الإستبدادية في سعيها إلى البقاء في السلطة حتى ولو أدى ذلك إلى تدمير البلد التي يحكمها ذلك النظام . إن إستعانة أي نظام حكم عربي بالاجنبي للإستقواء على مواطنيه

 

هي المدخل لعودة الإستعمار إلى تلك الدولة وتسليم مقاليدها لذلك الأجنبي فيما لو أدى تدخله إلى بقاء نظام الحكم المعني في الحكم بالرغم عن إرادة شعبه . وهذا ما يجري الآن في سوريا ، وما جرى في العراق بعد أن تحالفت المعارضة العراقية مع أمريكا في حربها على العراق  إبان حكم صدام حسين .

    عندما تفاقمت الأمور مثلاً وأصبح بقاء النظام السوري في خطر ، لم يخطر ببال ذلك النظام البحث عن حل سوري – سوري ، وإنما لجأ إلى طلب العون العسكري من خارج سوريا وتحديداً من إيران وحزب الله وفي النهاية من روسيا دون اي إعتبار لخطورة التدخل الخارجي على مستقبل سوريا  نفسها وعلى إستقلالها ومصالحها الوطنية .

         إن ما يجري الآن حقيقة هو إستدعاء للقوى الإستعمارية واستعمال سطوتها للتأثير على مجرى الأمور داخل العالم العربي ، الأمر الذي سيؤدي حتماً إلى تمزيقه وإعادة تشكيله وخلق كيانات هزيلة بديلة لن تكون راغبة أو قادرة على التخلص من نفوذ دول الإستعمار الجديد لأنها استمدت وجودها وشرعيتها من دعم تلك القوى لها .

        المغالاة في فعل الشئ لا تعني الاجادة بقدر ما تعني المبالغة أو التعصب . وهذا ما ينطبق على الكثيرين اللذين يغالون في التأييد أو يغالون في العداء . إذ من الخطأ مثلاً القبول بمقولة تخوين المعارضة السورية على إطلاقها بإعتبارها عميلة لقوى أجنبية أو إبراء نظام الأسد من دم يعقوب بإعتباره غير مسؤول عن ما جرى في سوريا ولسوريا . المعارضة في سوريا قد تكون بأشكالها وألوانها المختلفة صناعة محلية وأجنبية في الوقت نفسه . إذ من المؤكد أن هنالك معارضة سورية شعبية وحقيقية ووطنية ولكن،  من الطبيعي أيضاً أن تحاول دول أخرى التسلل في ظل الأوضاع الفوضوية السائدة إلى صفوف المعارضة لخدمة أهداف ومخططات خارجية قد يكون جزء منها التخلص من الأسد ونظامه ، وجزأ ً آخر تدمير سوريا أو حتى تقسيمها وجعلها دولة فاشلة أو دويلات

صغيرة لا قيمة أو فعالية لها . ولكن المسؤولية تعود في النهاية على النظام الحاكم لفشله في معالجة الأمور قبل تفاقمها ، وفي إصراره وعناده على عدم تقديم أي تنازل لشعبه وعلى إعتبار أن من يعاديه أو يعارضه خائناً يجب القضاء عليه ! منطق عجيب وغريب ولكنه منطق الأنظمة المستبدة التي تعتبر بقاءها هو بقاء للدولة وما هو مناسب لها مناسب ، بالضرورة ، للشعب وللدولة التي يحكمها .

       يحلو للعديد من مؤيدي نظام الأسد مثلاً الإدعاء بأن النظام في سوريا هو النظام الوطني الوحيد و بأن روسيا هي دولة صديقة تقدمية لا مطامع لها وكأن الإتحاد السوفياتي والحرب الباردة ما زالا قائمين ، تماماً كما يحلو للبعض الآخر التأكيد على أن من يدعم المعارضين للأسد هم الدول الاستعمارية والرجعية مثل أمريكا والغرب والسعودية ودول الخليج وأن المعارضة السورية هي ، على إطلاقها ، عميلة لجهات أجنبية . هذه المواقف الافتراضية والمسبقة الصنع تـَفـْتـَرض في معظم الأحيان الكثير ولا تـُثـْبـِتْ إلا القليل، بإستثناء حقيقة سوء الإختيار في اللجوء إلى طلب المساعدة من قوى خارجية إستعمارية أو ذات مطامع . فروسيا الآن هي مثل أمريكا قوة عظمى لها مطامع وأهداف استعماريـة . وعلاقة روسيا بإسرائيل وثيقة جداً والعديد من أساطين اليمين في إسرائيل وكبار المسؤولين فيها من أصول روسية ، وروسيا تحتفظ بعلاقات وثيقة معهم ، والعلاقات بين الحكومة الروسية والحكومة الإسرائيلية دافئة .

        إن أطماع روسيا في الوصول إلى المياه الدافئة للبحر الأبيض المتوسط هي هدف تاريخي عابر لكافة الأنظمة التي حكمت روسيا من الأمبراطورية الروسية ومن ثم الأتحاد السوفياتي إلى الأتحاد الروسي . وهذا الهدف الأستراتيجي يصب في الأولويات السياسية الروسية الخارجية والعسكرية . ومن المؤكد أن هذا الأمر لم يكن خافياً على نظام الأسد عندما طلب الدعم العسكري الروسي المباشر لنظام حكمه الآيل للسقوط في

ذلك الحين . والنتيجة أن سوريا تدار الآن من موسكو ، و الأزمة السورية تدار داخلياً من قبل الجيش الروسي وخارجياً من قبل وزير خارجية روسيا ، الذي أصبح في الوقت نفسه الناطق الرسمي بإسم سوريا . وما سعى اليه بشار الأسد من خلال طلب العون العسكري من روسيا للبقاء في الحكم قد نجح في إبقاءه وإبقاء نظامه ولكن حـَوﱠلـَه في الوقت نفسه من رئيس دولة إلى محافظ . كل هذا وغيره كثير كان مبعثه أنانية الحكم والرغبة في البقاء في السلطة بأي ثمن .

      هل في إستبدال نوع من الإستعمار بنوع آخر أي فرق ؟ إن الفرق قد يعتمد بشكل أساسي على ما تريده القوة الأستعمارية كهدف استراتيجي من وراء تدخلها في هذه المنطقة أو تلك . والحديث قد يأخذ أبعاده الحقيقية عند النظر في سلوك الدولة الروسية تجاه سوريا وفي كيفية التعامل معها ومع قضاياها بإعتبارها أمراً روسياً تحكمه المصالح الروسية أولاً مما يستدعي تطويع مجريات الأزمة السورية لتتناسب مع تلك المصالح . وقمة هذه السياسة تتمثل في الدستور الجديد لسوريا والذي تمت صياغته من قبل الروس ويتم بموجبه سحب الهويتين العربية والإسلامية لسوريا ووضع الأسس الدستورية لأضعاف المواطنة السورية من خلال الإعتراف دستورياً بتمايز الأقليات السورية تمهيداً لتقسيم الدولة السورية أو لتحويلها من دولـة مركـزية إلى دولة فدرالـية .

   إن إلتقاء المصالح الروسية مع الأمريكية في معالجة الأزمة السورية لن يكون بالضرورة منسجماً مع المصالح السورية . وأهداف أمريكا  الجديدة في سوريا تلتقي في نواح كثيرة مع روسيا وأهمها ثلاث :

أولاً : القضاء على ما يسمى بالإرهاب من خلال مزيد من الانتهاك للسيادة السورية                            تحت شعار مكافحة الإرهاب ، وربما دخول قوات أجنبية وعربية إلى داخل الأراضي السورية .

ثانياً : عدم اهتمام أمريكا بعودة الهدوء إلى الوطن السوري والحفاظ على وحدة أراضيه والإكتفاء بتأسيس مناطق آمنة وهي المدخل للتقسيم الفعلي لسوريا .

ثالثاً : وقف تدفق المهاجرين السوريين إلى خارج سوريا بل والعمل على إرجاعهم إلى سوريا وإسكانهم في المناطق الآمنة .

   ترى هل نشهد الآن نهاية الأزمة السورية أم بدايتها الحقيقية مكرسة بعودة الإستعمار لسوريا والعراق والعديد من الدول العربية بقرار ذاتي عربي ؟

بقلم : د. لبيب قمحاوي*     

  ** مفكر ومحلل سياسي