إسرائيل تصادر الأرض وتبني المستوطنات منذ أن احتلت الضفة الغربية وقطاع غزّة والجولان عام 1967، والعرب يشجبون ويستنكرون ويستهجنون ويدينون ويندّدون منذ ذلك الحين أيضاً. لا الاستيطان توقف ولا التهديد العربي توقف. في كل مرة يسمع العرب والفلسطينيون بتراخيص لبناء وحدات استيطانية جديدة يهبّون ببياناتهم شديدة اللهجة وتصريحاتهم النارية وخطبهم الرنانة متوعدين إسرائيل بسوء المصير. وفي الحقبة الأخيرة من تطوّر القضية الفلسطينية، أخذ حكّام العرب يهدّدون بوقف ما يُسمّى بالعملية السلمية، أي العملية التفاوضية، والتفاوض يبقى مستمراً جنباً إلى جنب النشاط الاستيطاني المكثّف. العرب والفلسطينيون يلهثون بشديد الكلام، لكنهم ما زالوا يعجزون عن كبح جماح إسرائيل، ويعجزون أيضاً عن إقناع الشارع الفلسطيني بأنهم جادون في تحدّي الاستيطان والاستيلاء على الأرض.
سياسة الشجب والاستنكار
لم تكن سياسة الشجب والاستنكار مفيدة في التاريخ العربي، وهي سياسة تُثير الضحك والاستهزاء في الشارع العربي، وطالما فقد الفلسطينيون آمالاهم وهم يسمعون عبارات استنكار ممجوجة ومُبتذلة. لقد تم اتبّاع هذه السياسة من قِبَل قادة العرب وفلسطين حتى أصبحت ظاهرة وعلامة بارزة في السياسات العربية، وهي بالضبط كسياسة اتهام الآخرين المعارضين بإثارة الفتن كلما انتقدوا الأنظمة القائمة. ومن الواضح أن المواطن العربي لم يعد يقرأ بيانات لأنه بات يعلم أنه لا فائدة تترتّب عليها، وهو لا يسمع استنكارات لأنها مجرّد اجترار لما سمعه مئات المرات من دون أن يتمخّض عنها شيء إيجابي. بل من مجريات الأمور، نستنتج استقرائياً أن هذه السياسة تحمل في داخلها خطرين كبيرين أحدهما خارجي والآخر داخلي. على المستوى الخارجي، الاستنكار والتنديد المُتكرّران يحملان رسائل طمأنة للطرف الآخر بأن المستنكر لا ينوي عمل شيء يؤثّر على المعتدي، وهو يكتفي بصف بعض الجمل المنمّقة لغوياً من دون أن ينطوي ذلك على نوايا بالعمل الجاد. اعتادت إسرائيل ومن يحالفها من دول الغرب والشرق أن قادة العرب أعجز من أن يصنعوا شيئاً دفاعاً عن أنفسهم، وهم دائماً يتوارون خلف بديع الكلام هرباً من تحمّل المسؤولية. إنهم يعملون عكس ما يقولون، وهم يقولون ويديرون ظهورهم ولا أحد يحاسبهم لأن شعوبهم أكثر عجزاً منهم. أي أن كل عبارات الاستنكار والشجب والاستهجان لا تؤثّر بتاتاً بالسياسات العدوانية التي تدار ضدّ العرب وضدّ شعب فلسطين بالذات. وربما لدى إسرائيل الاستعداد للمشاركة في صوغ بيانات العرب الاستنكارية وبصورة أكثر حدّة مما يكتب العرب أنفسهم. فكلما لجأ العرب إلى الاستنكار تطمئّن إسرائيل وتستمر في سياساتها من دون أي تحد يذكر. هي تعي ذلك تماماً ونحن العرب لا ينقصنا الوعي به.
أما على المستوى الداخلي، فتؤدي سياسة الشجب والاستنكار إلى مزيد من الإحباط وقتل الروح المعنوية لدى الناس، ومن ثم إلى العزوف عن الانشغال بقضايا الأمّة. سياسة الاستنكار هي نقيض العزّة والإباء عندما تتحوّل إلى ظاهرة، وهي بالتالي قاتلة للانتماء والالتزام وحب الوطن والحرص عليه.
قامت فلسفة الحركة الصهيونية على الاستيطان وما يتطلبه ذلك من الاستحواذ على الأرض بالشراء أو المصادرة أو التسريب من قِبل السلطات الحاكمة في فلسطين. وقد تم تطبيق هذه الفلسفة بجد واجتهاد منذ أن بدأ الغزو الصهيوني لفلسطين، وقد ساهم الانتداب البريطاني والقيادات الفلسسطينية الإقطاعية مساهمة فعّالة في إنجاح تلك الفلسفة. وقد ركّز الصهاينة على أمر حيوي ومهم وهو ضرورة خلق أمر واقع يفرض نفسه ويمنع الآخرين من الانقلاب عليه. وقد نجحوا في ذلك أيضاً. ورثت إسرائيل هذه الفلسفة وما ترتّب عليها من مقاربات وعملت على تطبيقها بعد احتلالها للأراضي العربية عام 1967. وضعت إسرائيل تصنيفات للأراضي وقوانين من أجل تسهيل عمليات المصادرة والاستيطان. صحيح أن الاحتلال بحد ذاته إرهاب وهو مخالف للقوانين الدولية، لكن إسرائيل دائماً اعتبرت صناعة الأمر الواقع أهم بكثير من القوانين الدولية، وأن هذه القوانين تفقد قيمتها أمام ما يتبلور على الأرض. ولهذا بدأت تستوطن وتكثّف من إجراءاتها لتهويد القدس بالذات ومن ثم تهويد الضفة الغربية. وإسرائيل تتميّز بالنَفَس الطويل ولا تتعجّل الأمور. دائماً هي تعمل على تنفيذ ما ترمي إليه على نار هادئة وبروية وبطء. ونحن نرى على أرض الواقع كيف أنها دأبت على مدى حوالى خمسين عاماً وسلبت الأرض وهجّرت السكّان الفلسطينيين وبنت المستوطنات ورفعت من نسبة السكّان اليهود في القدس والضفة الغربية.
أما بالنسبة إلى العرب عموماً والفلسطينيين خصوصاً فلم تتبلور لديهم خطة أو رؤية حتى الآن حول كيفية المحافظة على الوطن. لقد ارتجلوا خططاً ورؤى عبر السنوات، لكنهم لم يكونوا قادرين على المثابرة والمواصلة حتى تحقيق النتائج المطلوبة. لم يلتزموا بمقاربات واضحة المعالم، ولم يطوّروا مبادئ وقِيَم للمحافظة على الذات والأوطان وذات وقع في النفوس لتصبح ثقافة قيمية وطنية تعمّ الوطن العربي عموماً أو وطناً عربياً بعينه. ولهذا لم يكن من المتوقّع أن ننتصر على الأعداء، أو نجاريهم في مكرهم وحيلهم ومقارباتهم.
حتى نتمكّن من مجابهة الاستيطان بصورة فعّالة بعيدة عن الارتجال والفهلوة والأفواه الكبيرة، أمامنا عدد من الخطوات الجوهرية وهي: يجب إطلاق أيدي الشباب الفلسطينيين من أجل أن يقارعوا الاحتلال بالطرق التي يرونها مناسبة، وهذا يتطلب التخلّص من اتفاق أوسلو وما ترتّب عليه من التزامات أمنية تجاه إسرائيل. لا يعقل أن نواجه الاستيطان بفلسطينيين ملتزمين بالدفاع عن الأمن الإسرائيلي والمستوطنين. ومن ثم علينا أن نعيد ترتيب تصنيفات الأراضي المعمول بها في السلطة الفلسطينية من أجل تسهيل تسجيل الأراضي وإجراءات الإفراز. يجب تطوير القوانين بما يتناسب مع ضرورة انتشار المساكن الفلسطينية أفقياً. هذا لن يحصل إلا إذا عرف كل شخص مكان ملكيته بالضبط. ومن ثم يجب إلغاء القوانين التي تحدّ من حركة البناء أو قل الاستيطان الفلسطيني. ومن ثم خفض الرسوم والضرائب المفروضة على الناس لكي يقبلوا على التسجيل والإفراز. وبعد ذلك لا بدّ من توجيه الدعم المالي للقطاع الزراعي وبناء البيوت والمساكن للعمال والفلاحين والأزواج الشابة بدل توظيف هذه الأموال لتعميق أعمال الفساد.
المعنى أنه يجب اتّخاذ خطوات عملية لصناعة واقع فلسطيني يفرض نفسه بدل إهدار الورق في كتابة البيانات السخيفة. منذ قدوم السلطة الفلسطينية إلى الأرض المحتلة/67 والتعايش مع الاستيطان قائم على الرغم من كل التصريحات الرافضة، وأظن أنه يكفينا تنديداً واستنكاراً، وعلينا أن ننتقل خطوة إلى الأمام.
د. عبد الستار قاسم، أكاديمي ومفكر فلسطيني