كانت عبارة عن جملة عابرة خطرت ببالي للحظة، قبل بضعة أسابيع، حين التقيت بقريب لي، وهو ضابط شاب، كان تخرج من كلية الشرطة بالقاهرة، عام 2007، حيث كان ابتعث على حساب السلطة الوطنية ليدرس في الكلية، على أن ينخرط في قوات الشرطة الفلسطينية حال تخرجه برتبة ملازم، ولكونه من أبناء قطاع غزة تخرج، ليجد نفسه، كما شأن أبناء دفعته، غير قادر على العودة فوراً، إلى أن يفتح المعبر بعد أشهر.
وحين عاد، وجد نفسه موظفاً دون أن يمارس مهنته التي درس من أجلها، وحلم بأن يمتلك الخبرة العملية مع الأيام، وأن يصعد في سلم الوظيفة، حتى يحقق مكانته التي يصبو إليها، لكن شيئاً من هذا لم يحدث، تندرت معه قائلاً: ربما تظفر بمكانة في سجل غينيس، باعتبار أنك ربما تحال إلى التقاعد دون أن تكون قد مارست مهنتك كضابط شرطة.
هذه الحالة قد تلقي الضوء على واقع يعيشه أكثر من سبعين ألف موظف مدني وعسكري في قطاع غزة منذ عشر سنوات، وأقل ما يمكن أن يقال فيه، إنه غير طبيعي، من أكثر من جهة وزارية، وحيث إن هذا الملف عادة ما يفتح بين فترة وأخرى، "وكل ما حك الكوز بالجرة"، بناء على تقارير المفوضية الأوروبية، نجد أن موظفي قطاع غزة، الذين انخرطوا في مواقع الوظيفة العامة منذ أن تأسست السلطة، اضطروا دون أن تكون لهم يد بالأمر، إلى أن يصبحوا، كما هو حال المرأة المعلقة، التي لا هي متزوجة ولا هي مطلقة، فهم يتلقون رواتبهم نعم، لكن دون أن يمارسوا عملهم الوظيفي، وعن هذا الوضع تظهر نتائج نفسية ومهنية لها علاقة بالخبرة والإحاطة أو التمكن من المهنة، كذلك في الشعور بالقيمة الإنسانية، حين يشعر المرء بأنه يخدم وطنه ويساهم بدوره في بناء مؤسساته وتقديم الخدمة العامة للمواطنين.
صحيح أن هؤلاء لا يقومون بالعمل، لكن الذنب ليس ذنبهم، وهم يدفعون مقابل حصولهم على الراتب الوظيفي، والذي يكاد يكون بمثابة مرتب الضمان الاجتماعي لمعظمهم، ثمناً باهظاً، إضافة للثمن المعنوي، فهم يحصلون على الحد الأدنى من الراتب، بلا علاوات، ولا ترفيعات ولا مواصلات ولا بدلات، وذلك منذ عشر سنين.
الأسوأ من هذا هو أنه تم التوقف عن التعيينات الجديدة في قطاع غزة للسلطة الوطنية منذ عام 2007، لذا تفشت البطالة، كذلك تعقدت الأمور أكثر مع إقدام سلطة "حماس" على تعيين عشرات الآلاف من كوادرها وعناصرها كموظفين بدلاء عن موظفي السلطة المعينين قبل حدوث الانقسام.
ولقد كان هذا الملف واحداً من الملفات التي وقفت حائلاً دون إنهاء الانقسام، بحيث يمكن القول: إن موظفي قطاع غزة بشقيهم _ موظفي السلطة وموظفي "حماس" _ كانوا أول وأكثر من تضرروا من استمرار حالة الانقسام.
كثيراً ما ظهرت أصوات من داخل السلطة، ومن "حماس" أيضاً، للنيل من الحق الطبيعي والإنساني والوظيفي لأكثر من سبعين ألف موظف قطاع عام، يعيلون أكثر من نصف مليون إنسان، بحيث يمكن القول: إن هؤلاء كانوا كما لو أنهم أيتام، لا أب وحتى لا أم لهم، فإذا كان ظهرهم قد انكشف من قبل السلطة التي التزموا بقرارها بمقاطعة وزارات "حماس"، وهم في الوقت ذاته مستهدفون من قبل موظفي "حماس" الذين يتنمرون للانقضاض على أرقامهم الوظيفية ومرتباتهم، بعد أن انقضوا على مكاتبهم ومقاعدهم ووظائفهم، ولولا أن التغطية المالية تجيء من جهات محايدة أو داعمة للسلطة، لربما كان هؤلاء في مهب الريح منذ سنوات.
في الحقيقة، الأمر الذي هو غير طبيعي هو استمرار الانقسام، الذي يجعل ما هو طبيعي غير طبيعي، فموظفو السلطة الوطنية في غزة، يمكن لكل محاولات المس بلقمة عيشهم أن تتوقف فور أن تضع حكومة الوحدة الوطنية قدمها داخل قطاع غزة، فيصبح شأنهم كما هو حال زملائهم في الضفة الغربية بكل بساطة.
ولأن فاتورة الراتب التي تدخل قطاع غزة عبر هؤلاء الموظفين، تعتبر أحد أهم مداخيل "الدخل القومي أو الدخل العام" للقطاع، لدرجة أن محلات البقالة والباعة، وحتى أصحاب البيوت المؤجرة، ينتظرون الأسبوع الأول من كل شهر، بفارغ الصبر، حتى "يبلوا" الريق بما يدخل من نقود إلى البنوك لتتحرك عجلة الاقتصاد قليلاً.
بغض النظر عما يجري من حديث عن تغيير أو مستجد في أوجه صرف المساعدات التي تقدمها المفوضية الأوروبية للسلطة الفلسطينية، فإن الحديث نفسه ينم عن بقاء الملف مفتوحاً بما ينطوي عليه ذلك من مخاطر، بسبب استمرار الانقسام.
ولعل في سياسة تعليق الملفات كل الخطر، لأن ذلك يعني أن أي تغير في الظروف العامة يمكن أن يغير الموقف، لذا فإنه من الأفضل لموظفي قطاع غزة، أن يسارعوا إلى تشكيل إطار نقابي عام خاص بهم للدفاع عن حقوقهم الوظيفية، والتحرر من أي شعور بأنهم يتلقون منّة أو حسنة من أحد، فإما أن يتم إجراء تقاعد مبكر لهم، مع حوافز مجدية كما حدث مع العسكريين بعد عام 2007، حيث تمت ترقيتهم مباشرة ومنح كل من تجاوز الأربعين من العمر التقاعد، والمهم ألا يتم اتخاذ أي إجراء من وراء ظهر الموظفين أنفسهم، وهم إن لم يسارعوا بالدفاع عن حقوقهم، فلن يجدوا من يدافع عنهم، وفي الحقيقة هذا هو حال وشأن كل الشعب الفلسطيني، الذي بات بعد عقود من انتهاء الحرب الباردة وبعد رحيل عرفات، كما لو أنه بلا أب عربي ولا أم إسلامية!
رجب أبو سرية