سرعان ما ينبض قلب الفتى بالحب ويكتوي بناره، وترى الفتاة نفسها تنجذب بغير حول ولا قوة لفارس أحلامها الوسيم، ولا ترضى إلا أن يهبها عهدا يكتبانه بلغة العاشقين على شجرة، أو يحفرانه على صخرة من صخور الشاطئ، بألا ترى عيناه سواها، وألا ينبض قلبه بعد تلك اللحظة إلا لضخ الدم وحبها، وتنساب على شفاههما كلمات تَحُطّ على جدار الروح بأنه خلق لها وخلقت له، وليس هناك ما يفرق بينها حتى الموت، ودعوات بأن يحفظ الله حبهما على لسان العاشقين بعدهم طول الزمن.
يبدآن خطة تحول هذه الكلمات الحالمة إلى واقع، ويفكران بأن يعلنا للدنيا حبهما ويؤسسا حياة تجمعهما تحت سقف العرف والقانون برباط مقدس، فتبدأ مراسم يفرح بها الأهل والأحبة وتطير هي على جناح السعادة بما يختصها به الحبيب من هدايا وقربات، وتأتي الساعة الموعودة حين يقف ليطلب يدها من الأب بكل الأمل والرجاء، ليراها تقف صماء بكماء لا حول لها ولا قوة حينما يكبّّل بمهر يكسر الظهر وطلبات تستنفذ طاقته لسنوات عجاف، ومؤخر لا يعلم إن كان سيملكه في حياته أم لا، وتحاصره الناس بتكاليف العرس وعادات تستنزف ما بقي من شحمه ولحمه، تتركه حيرانا لا يدري إن كان قد أنصف فعلا حين خان عقله وعشقواستسلم لسحر عينيها، ولا يغشاه في تلك الأيام إلا أمل بمستقبل ترسمه الأيام ملونا بسعادة تستحق كل هذه التضحية والعناء.
ويتيهان بروعة اللقاء ويتزينان ببريق يشع من الجبين، وفرحة تتراقص بها العيون ويتفاعل معها الضجيج والسكون، ويرتاح الجسد وتهدأ النفس وتقر الجفون، ويسري بينهم خبر يملأ أنفسهم بهجة وأملا، وتتسع أمامهم روزنة المستقبل بالفرح الموعود وضحكات بريئة تملأ بيتهم وبيوت أحبتهم، وشقاوة تدفع الجد والجدة إلى منتهى السعادة، ويتسلل من بين الزوجين العشق بين وطأة المسؤولية وكثرة الطلبات، وتضيع لهفة اللقاء ولمعة العيون صباحا ومساءا، وتستبدل قبلات الصباح بطلبات لا تنتهي، وأحضان المساء بتحقيق شامل لكل ذنب وحسنة آتاها الرجل في نهاره.
ولابد أن يحن الاثنان لبداية القصة ويفكرا بلهيبها الأول والأحلام الوردية، وعهود كتبت على شاطئ الغرام أصبحت اليوم عبئا على من حفرها، وكلمات خرجت صادقة من قلوبهم فقدت بريقها وقوتها، فيبحثان عن ذلك النبض وتلك اللهفة فلا يجدان إلا آثارا كادت أن تزول، مع أن المودة والرحمة تملآن قلوبهما والرغبة أن تزين القصة بمشهد حميمي تسري في فؤادهما، ويبدأ الرجل في تحسس الأرض الصلبة تحته، فتصدمه الحقيقة العمياء، وينهار بين يديه جدار العشق ويرى الحياة مسؤولية وراء أخرى، وترى المرأة نفسها تفقد كل ميزاتها وواجباتها إلا الخدمة للبيت والزوج وأهله منذ الصباح إلى المساء، والأدهى من ذلك ثقتها بالمستقبل الوردي الذي رسماه معا.
تلك هي الحكاية التي تتكرر تلقائيا في كل علاقة حديثة ونهايتها غالبا ماتكون الخيانة أوالطلاق، أو حياة تخلو من أي طعم للسعادة نتيجتها أجيال ضائعة مريضة نفسيا غير قادرة على متطلبات الحياة العصرية، لأنها تمجد أحاسيس الإنسان ورغباته على حساب المتطلبات الأساسية للحياة، فإحساس المرأة بأنها يجب أن تكون الوحيدة في حياة الرجل، كما أن الرجل هو حظها الوحيد في حياتها، ومصاعب الحياة وتكاليفها لا تترك مجالا لأي رجل بأن يفكر في البحث عن السعادة الحقيقية.
إن انحسار الأسرة الممتدة والحرب على فكرة تعدد الزوجات مؤامرة تستهدف المجتمع بكل طبقاته، فانحسار مسؤولية التربية بالأبوين وضخامة تكاليف الزواج العصري وانقطاع التواصل بين الأجيال هو ما آلت إليه الأسرة الحديثة، فقد كان الجد أكبر سلطة في العائلة والآباء مجلس استشاريّ له الاحترام والتقدير، والأحفاد زهرات يحتضنها الجميع بالرعاية والاهتمام،وإن غاب أحد الآباء أو عجز أو تهرب من مسؤولية أسرته وجدت الجد والأعمام يحفظونها ويمضون بها لبر النجاة، ويقف الجميع سدا أمام أي تهديد يستهدف العائلة ماديا أو معنويا.
أما حرمان العائلة من التعدد فقد حرم الأب الاحترام والراحة النفسية، فقد كان ملكا يسعى الجميع لنيل رضاه وراحته، وأضاع من الأم الكثير، فلا يطلب منها أن تسرع في الإنجاب وإن زاد الأبناء قل عنها أعباء الزوج، وإن لم يرزقها الله الذرية عاشت كريمة في ظل الأسرة ووجدت من يحترمها ويرعاها إذا غاب الزوج إكراما له، أما الأبناء فإنهم رغم اختلاف منابتهم يبقى ولاؤهم للأسرة وطاعتهم للأب، يتعاونون على رفع راية عائلتهم والاهتمام بإخوتهم الأصغر سنا لتخفيف العبء عن الأب، وبرغم اختلافهم فإنهم يكملون بعضهم ويعطفون على بعضهم ويبقون يدا واحدة أمام أي شيء يمس عائلتهم.
إن اختصار الحياة على امرأة واحدة تهبها قلبك وحياتك ومستقبلك ولا ترى غيرها غاية، وهي بالمقابل تراك ملكا لها لا تشارك به أحدا وهي مصدر السعادة الوحيد الذي لا تستغني عنه أبدا، ونسيان أن الله قد فتح أفقا واسعة ضمن حدود دينه وشرعه، وأن السعادة لها أبواب عدة، وعمارة الكون تحتاج أن نفتح أفقنا ونركز على عبادة الله وحده لا شريك له هي برأيي فتنة الرجال بالنساء.
أسامة نجاتي سدر