من كثرة ما كُتب وقيل عن مشاكل وأزمات الأمة العربية وحال العرب بشكل عام ، ولأن العرب بالفعل يمرون اليوم بمرحلة صعبة وتعيش دولهم ومجتمعاتهم حالة تفكك وحروب أهلية ، ولأن المراقب لا يشاهد ويسمع إلا عربا يقاتلون بعضهم البعض ويشكك بعضهم بالبعض ويتآمر بعضهم على بعض ، دون رؤية أو تلمس القوى الخفية التي تقف وراء ما يجري ،لكل ذلك فقد ترسخت قناعة أو حكم مُسبق بأن العرب بطبيعتهم متخلفون ولا فكاك من حالة التخلف التي يعيشونها وأن مصير المشروع القومي العربي بل مصير العرب إلى زوال .
عملية كي وعي تجري على قدم وساق لتشكيك العرب بهويتهم وتاريخهم وبثقتهم بنفسهم من خلال الإيحاء أن حقيقة العرب هي ما هم عليه اليوم ، وأن العروبة أو المشروع القومي العربي أكذوبة كبرى ، وعملية كي الوعي توظف مقارنة مجحفة وغير علمية ما بين واقع العرب وحال الغرب . هذه المقارنة تتجاهل أن الغرب وصل الى ما هو عليه من ديمقراطية وتقدم بعد خمسمائة سنة من الصراعات الدينية والحروب الأهلية وحربين عالميتين مدمرتين ونتيجة عقود من استعمار دول العالم الثالث ونهب ثرواتها ، بينما العرب لم يخرجوا من مرحلة الهيمنة العثمانية ثم الاستعمار الغربي إلا منذ أقل من مائة عام ، مع استمرار الهيمنة بوسائل أخرى .
أيضا سيكون مما يتعارض مع العلم تفسير هذا التباين أو اختزاله بعبقرية الغرب مقابل تخلف العرب ، فالعلم أثبت خطأ الرأي القائل بأن الشعوب تتفاوت في درجة ذكائها ، بل يؤكد العلم وتؤكد التجربة التاريخية بأن التقدم والتخلف يعود لأسباب موضوعية سياسية واقتصادية وعسكرية ، وهي أسباب متغيرة ومتحولة ، ولو كان الأمر يتعلق بالتفوق العقلي فكيف نفسر أن أوروبا كانت تعيش عصر الظلمات والتخلف خلال القرون الوسطى بينما كان العرب والمسلمون ينجزون حضارة امتدت لأسبانيا وحدود فرنسا بل وكانت الجامعات الأوروبية في بداية عصر النهضة تدرِس العلوم باللغة العربية ؟وكيف نفسر أن الصين من أكثر الدول تقدما اليوم كانت خاضعة للاحتلال الياباني ؟ والأهم من ذلك وإن كان الامر يعود للذكاء والعبقرية فكيف نفسر فشل اليهود في إقامة دولتهم المزعومة طوال ثلاثة آلاف سنة ولم تر هذه الدولة النور إلا بسبب توازنات دولية على إثر الحربين العالميتين الأول والثانية ؟ .
هذا لا يعني دفاعا عن حالة عربية مزرية ولا تجاهل الواقع المتخلف للعرب مقارنة بإسرائيل و للغرب ، ووجود الدول العربية في مستويات دنيا على سلم التنمية الشمولية بما تشمل من اقتصاد وتعليم وديمقراطية ، كما لا يمكن تجاهل فساد الأنظمة والنخب السياسية العربية ، ولكن هدفنا قطع الطريق على من يسعى لنشر اليأس والإحباط ودفع الأمة العربية للاستسلام للأمر الواقع ومحاولة فرض رؤية أحادية الجانب للصراع الدائر في منطقتنا العربية وهي رؤية تخفي حقيقة أن العرب ومشروعهم القومي الوحدوي مُستهدف خارجيا وأن ما يجري في المنطقة العربية لا يعود للطبيعة المتخلفة للعرب بل نتيجة مؤامرة خارجية .
وبناء على ذلك فإن مهمة المثقفين القوميين العرب المؤمنين بالمشروع القومي العربي والرافضين لكل المشاريع الإقليمية والخارجية المتآمرة على الأمة العربية ، ستكون مهمة شاقة وسيبدون وكأنهم يغردون خارج السرب وخارج الواقع ، واقع تفشي الطائفية والمذهبية والإثنية وتفكيك حتى الدولة الوطنية(القطرية) التي كان يُراهن عليها كأساس ومرحلة انتقالية يمكن البناء عليه للوحدة العربية المنشودة .
في مواجهة الاستراتيجية الامريكية والغربية عموما التي تستهدف المنطقة متحالفة أو متقاطعة مع المشروع الصهيوني والمشروع الفارسي والمشروع التركي ومشاريع الوهم الإسلاموية ، وحيث إن الفوضى الهدامة التي عنوانها (الربيع العربي ) ستنتهي اليوم أو غدا ، لكل ذلك على المناضلين والمثقفين العرب أن يستعدوا لملء الفراغ وقطع الطريق على أصحاب المشاريع الأخرى ، وأن يخرجوا من حالة اليأس والإحباط ويستعيدوا ثقتهم بأنفسهم وبأمتهم العربية ، ويُعيدوا صياغة المشروع القومي العربي برؤية ديمقراطية حضارية جديدة بعيدا عن التعصب والانغلاق .
وضمن نفس السياق والأحكام المُسبقة والحكم على الظاهر ، يتم مقارنة ما أنجزه المشروع الوطني الفلسطيني وما أنجزه المشروع الصهيوني وإرجاع التباين إلى أسباب تعود لعبقرية اليهود وتخلف الفلسطينيين والعرب . هذا التفسير يعبر عن عقل إما جاهلا بطبيعة الصراع وتعقيداته أو قاصدا الإساءة للشعب الفلسطيني وتاريخه وإنجازاته .
مما لا شك فيه أن الصهاينة عملوا بجد حتى تقوم دولتهم والعامل الذاتي كان مهما في قيام دولتهم ، ولا شك أن إسرائيل اليوم تتمتع بوضع الدولة المتقدمة صناعيا وعلميا وعسكريا ، كما أن نظامها السياسي يتمتع بحالة من الديمقراطية والاستقرار السياسي ، ولا شك أن الجيوش العربية انهزمت أمام إسرائيل ، أيضا لا ننكر أن الفلسطينيين لم يتمكنوا حتى اليوم من إقامة دولتهم المستقلة ، وبالعكس تواصل إسرائيل عمليات الاستيطان والعدوان في الأراضي الفلسطينية كما ترفض الانسحاب من الاراضي العربية المحتلة .
لكن كل ذلك لا يبرر مقارنة وضع الشعب الفلسطيني الخاضع للاحتلال والمشتت في أكثر من بلد بوضع إسرائيل القاعدة المتقدمة للغرب في المنطقة . كل ما عليه إسرائيل من مظاهر قوة وتقدم لا يعود لعبقرية استثنائية أو لجهود الحركة الصهيونية فقط بل لتبني واحتضان المشروع الصهيوني من طرف الغرب المسيحي الذي يؤمن بحق إسرائيل بالوجود والذي لا يسمح لأية دولة في العالم أن تهدد وجودها ، أيضا لالتقاء مصالح الطرفين في المنطقة العربية ، ولو أُتيِح للفلسطينيين نصف الفرص والظروف والإمكانيات التي أُتيحت للصهاينة ما كان وُجِدت دولة إسرائيل .
الخطورة في ترديد مقولة تفوق الغرب والذكاء اليهودي مقابل تخلف العرب والفلسطينيين لا تكمن في مجافاتها للعلم ولحقيقة الصراع الدائر وتشابكاته ، بل في مفاعيلها النفسية والسياسية وتأثيرها على بعض المثقفين والكُتاب حتى الفلسطينيين منهم والذين يمارسون جلد الذات ويسيئون للشعب الفلسطيني وتاريخه بإرجاع عدم نجاح المشروع الوطني الفلسطيني بخلل ذاتي فلسطيني ، وبطريقة مباشرة يرجعون سبب تقدم المشروع الصهيوني إلى أسباب ذاتية باليهود والإسرائيليين ، وهذه مغالطة كبيرة .
د/ إبراهيم أبراش