تستمد النظم السياسية شرعيتها، ومسوغات دوامها في الحكم من قدرتها على توفير لقمة العيش الكريم، والحقوق الأساسية لمواطنيها، من، حرية، ومشرب، ومأكل، وأمان، وبنية تحتية مناسبة، وتوزيع للموارد، وضمان للحريات بأشكالها، بعدالة، وشفافية، ومساواة، وحزم، وهو الأمر الذي عبّر عنه المواطن العربي البسيط الذي تظاهر في شوارع القاهرة، وتونس، وطرابلس، وصنعاء، ودمشق، رافعا شعار " عيش، حرية، عدالة اجتماعية، كرامة إنسانية"، قبل أن ترتد الثورات على نفسها، وتتحول إلى حروب أهلية تسحق عظم الفقراء، وتقذفهم لأمواج البحر، ورياحه العاتية، ليكون قدرهم، إما ابتلاع البحر لأحلامهم، قبل أجسادهم ، أو ابتلاع الغربة لهم في غياهب اللجوء، والتشرد.
عانى المواطن الفلسطيني خلال السنوات الماضية من ظاهرة الفلتان الأمني، وغياب سيادة القانون، واستشراء ظواهر السلاح غير الشرعي بيد عدد من المواطنين، وكذلك تضاعف عدد الجرائم المتعلقة بتجارة وإنتاج المخدرات بأنواعها، إذ ساهمت إجراءات الاحتلال، واستهدافه نسيجنا المجتمعي، وسيطرته المطلقة على المناطق المصنفة "جيم "، في تفشي الظاهرة، هذا بالإضافة انتهاج سياسة الأيدي الرخوة، بدلا من القبضات المشدودة، تجاه المنفلتين، ومن يقف خلفهم، مما حذا بالحكومة الفلسطينية مؤخرا، إلى اتخاذ خطوات حاسمة في هذا الإطار، وهو الأمر الذي لاقى صدى ايجابيا، على الصعيد الشعبي، ودعما لافتا من قبل مؤسسات المجتمع المدني، والقوى والفعاليات الوطنية، عكس بشكل جلي تعطش المواطن الفلسطيني إلى الشعور بالأمن، والعيش بمجتمع تسوده العدالة وسيادة القانون، وهو الأمر الذي يسجل للمؤسسة الأمنية، ولوزارة الداخلية، التي تواصل جهدها في هذا الإطار.
إلا أن تلك الجهود وإن كانت قد نجحت في تقليم فروع هذه الظاهرة السامة، ونزع أغصانها الضارة على المدى القريب، فإنها لن تستطيع منفردة اقتلاعها من الجذور، إذ أن اقتلاع ظواهر الفلتان، والفوضى، والجريمة، وأخذ القانون باليد، تتطلب الغوص عميقا في الجذور والأسباب، واقتلاعها بشكل نهائي ودائم، دون أن تمكينها من التسرب في التربة الخصبة لنموها مجددا كالسرطان في جسد الوطن، وقوت المواطن مستقبلا، وهو الأمر الذي يتعدى حتما فوهات البنادق، ومنصات المحاكم، واستخدام السلطة لحقها باحتكار استخدام القوة ضد المنفلتين، على أهميتها جميعا، إلا أن الوصول إلى مجتمع متصالح مع ذاته، ومنسجم مع محيطه، يتطلب جهدا موازيا لكل ذلك، تقوده مختلف المؤسسات الحكومية والأهلية الأخرى، بروح الفريق الواحد، والجسد الواحد، فأولادنا حصاد ما نزرع، ومن السخرية أن نتوقع حصاد الأمل، إن زرعنا الرياح، وزراعة الأمل تتطلب جهد جماعي، يبدأ بوزارة الثقافة، التي كنت أتمنى أن تعلن عن افتتاح مركز لها في البلدة القديمة في نابلس، أو في مخيماتها، لمساندة الجهد الأمني المبذول، ولتعليم الأطفال الموسيقى، والرسم، والحوار، واللغات، لزراعة الأمل، وتوطينه، بدلا من ثقافة العنف، والتمرد على الواقع، التي ينثرها الفقر، والعوز، ويعلي بنيانها، أو أن تتبنى مبادرات ثقافية وإبداعية مع منح أفضلية للمناطق الأكثر فقرا في المجتمع، كما أن من واجب المجلس الأعلى للشباب، أن يؤسس المزيد من المراكز الشبابية في المناطق الأكثر عوزا، بحيث تتبنى المواهب الصاعدة في مختلف المجالات، وتستثمر مهاراتهم الواعدة، فالجسم الرياضي حتى اليوم، لا زال معافى من آثار الانقسام البغيض، بالإضافة إلى دور وزارة الحكم المحلي، والبلديات في توفير بنية تحتية ملائمة في تلك المناطق، من مياه نظيفة، وشوارع معبدة، ومضاءة، وبناء المرافق التي من شأنها أن توجه طاقات الشباب بشكل ايجابي ومثمر، من ملاعب، ومراكز شبابية، كما أن لوزارة الأوقاف والشؤون الدينية، دورا محوريا، من خلال توجيه خطباء المساجد، ورجال الدين، نحو ضرورة بذر المحبة والتسامح، ونبذ العنف، والتضامن، في قلوب المواطنين، هذا بالإضافة إلى دور وزارة التربية والتعليم، التي يجب أن تكون بوصلة لأصحاب القرار في التعاطي مع قضايا الشباب الفلسطيني، من خلال الاستماع إلى احتياجاتهم، والإنصات إلى ما يجول في خاطرهم من قضايا، من أجل رسم سياسات تتوافق مع تلك المتطلبات، كما أن على مؤسسات المجتمع المدني، التي يدخل حسابات الكثير منها ملايين الدولارات سنويا في الضفة الغربية وقطاع غزة، لتنفيذ مشاريع تحت شعارات التنمية، والحوار، ونبذ العنف، وحقوق المرأة، أن تغادر أبراجها العاجية، وقصورها العالية، وتستمع لأنين المسحوقين من شباب الوطن، من خلال تنظيم مشاريعها، وبرامجها في المناطق التي تستحق، كما أن ذلك لا يعفي الحركات والقوى السياسية، ومنظماتها الشبابية، من العودة لإحياء روح العمل التطوعي، لا سيما في المخيمات، والأحياء القديمة في المدن، والتي انطلقت من بين أزقتها تلك المنظمات في مطلع ثمانينيات القرن الماضي، كل ذلك يجب أن يرافقه بالتأكيد قطاع خاص وطني ملتزم، يوفر فرص العمل، ويقلص نسب البطالة، ويتصف ببعض الشجاعة، للاستثمار في تلك المناطق، بدلا من هجرها، والهروب منها، إذ أقترح مثلا على مجموعة الاتصالات الفلسطينية، التي تنتهج منذ تأسيسها مشكورة برنامج مسؤولية اجتماعية ملتزم، أن توجه دعهما لتلك المناطق، وأن تدعم مشاريع تنموية مستدامة بها، عندها سيصبح دون أدنى شك، دور وزارة الداخلية في هذا الإطار، أكثر تأثيرا، وقدرة على اجتثاث جذور الفلتان، والفوضى الداخلية.
أتمنى أن تلقى هذه السطور أذانا صاغية من أصحاب القرار، وأن يكون هناك إرادة جمعية نحو إنهاء حالة الفلتان، لا إدارتها، أو التعاطي معها بردود فعل، مستذكرا سنوات طفولتي في حارة العقبة في البلدة القديمة في نابلس، في التسعينيات، حينما كنت أذهب كل صباح إلى مدرسة ظافر المصري الثانوية للبنين، ولا سيما في فصل الشتاء، ويلفت نظري وجود مجموعة من الأطفال، حفاة الأقدام، متهرئي الثياب، يلعبون " السبع حجار "، أو "البنانير" على عتبات درج العقبة الذي تفيض مياه رأس العين عليه طوال الشتاء، نظرا لسوء نظام التصريف الصحي، لتغرق ثيابنا أحيانا إلى أن تصل المياه لركبنا، إذ تمر الأيام، ويكون بعض من هؤلاء مطلوبين لقوى الأمن لمخالفات لها علاقة بالفلتان، والعسكرة.
لا زلت أسأل نفسي مرارا وتكرارا كلما مررت من ذات الحوش المؤدي إلى حارة " القيسارية "، ترى هل كان سيكون الحال غير الحال، وهل كنا سنحقن دم أبنائنا من أبناء المؤسسة الأمنية، أو المطلوبين لها، لو كان هناك مؤسسات تهتم بثقافة الأم والطفل، والشباب في البلدة القديمة، ليقطع حبل أفكاري مجموعة أخرى من الأطفال ، يلعبون " السبع حجار "، "والبنانير" بثيابهم المهترئة، وأقدامهم الحافية، فيما لفت نظري توقف المياه عن الفيضان كما كانت سابقا، بعد تبليط الحي مؤخرا من قبل بلدية نابلس.
بقلم : رائد محمد الدبعي