نعم هناك جريمة في رام الله. والجريمة ليست رواية عباد يحيى التي تحمل هذا العنوان. إذ لا يستطيع أي كتاب، مهما قيل عنه، أن يرتكب جريمة. يمكن لكتاب ما أن يزعج بعض القراء، أو أغلبية القراء، لكن وقف الانزعاج بالغ السهولة، يكفي أن يتوقف القارئ عن القراءة أو أن يرمي الكتاب، كي تنتهي المسألة.
أما الجريمة فحكاية أخرى، فللجريمة ضحاياها، والجريمة ترتبط حكما بالعقاب، مثلما علمنا دوستويفسكي في عنوان روايته الشهيرة. ومن المؤكد أن الكتاب ليس مجرما، قد يصف كاتب ما الجريمة، أو قد يكون ضحيتها، لكن الكتاب لا يرتكب جرما، الجريمة هي الاعتداء على الكتاب، واتهام الكاتب وسوقه إلى التحقيق.
واللافت في حادثة جريمة رام الله هو اتفاق الأضداد. النائب العام الفلسطيني التابع للسلطة يفتي بمصادرة الكتاب وملاحقة كاتبه وناشره، ووزارة الثقافة في غزة التابعة لسلطة "حماس" تعلن في بيان صريح تأييدها لمنع الكتاب، معلنة أن نشر الكتاب جناية.
هذا الاتفاق بين جناحي السلطة الذي ملأ انقسامها الأرض فسادا، يشير إلى التورم الذي ينهش الحياة الفلسطينية تحت الاحتلال. هذا التورم الخبيث، الذي يطيح معنى القيم الأخلاقية محولا إياها إلى مطية، ليس نتاج الاحتلال، بل هو نتاج عدم مقاومته، أو بتعبير أدق نتاج عدم وجود رؤية وطنية جامعة للمقاومة، ما يجعل التلهي بالأمور الصغيرة والتافهة، هو السمة الغالبة على الحياة السياسية والثقافية الفلسطينية.
هذه السمة العامة التي تجد في كلمة التفاهة عبارتها الملائمة، تمتد على مجمل الحياة الثقافية العربية، من رواية أحمد ناجي "استخدام الحياة" التي صودرت في مصر وزج بكاتبها في السجن، إلى رواية "جريمة في رام الله". حيث يجري عزل مسألة حرية التعبير عن إطارها، بصفتها جزءا من معركة الحرية في المجتمع. فالمسألة ليست ثقافية أو اجتماعية فقط، والقضية ليست خدش الحياء العام عبر استخدام كلمات جنسية كما يشاع ويقال، المسألة سياسية أولا، ويجب وضعها في سياقها، كي يستقيم النقاش.
في فلسطين ومصر وسوريا ولبنان وجزيرة العرب وإلى آخر خريطة هذا العالم العربي المرمي في عتمة الاحتلال والقمع والوحشية، عبّرت الحرية عن نفسها بأشكال متعددة، وصلت إلى ذروتها في الانتفاضات الشعبية التي عمت بلاد العرب مطالبة بالحرية والخبز والعدالة. وما تكالب الاستبداد والأصولية على قمع هذه الحرية التي ولدت وسط الألم والدماء، إلا تعبيرا عن رعب الاستبداد وآلاته القمعية من الغضب الشعبي، ما قاد إلى حمامات الدم ومشانق سجن صيدنايا ومحاكم التفتيش التي أقامها تنظيم "الدولة" (داعش) وأخواته.
وفي فلسطين، التي كانت مهد الانتفاضات العربية، عبّر الانسداد السياسي عن نفسه بانتفاضة السكاكين، التي تناوب الاحتلال وأجهزة الأمن الفلسطينية على وأدها.
قضية الحرية يجب أن تُقرأ في هذا الاطار، لأن حرية الكلمة هي جزء من حرية المجتمع، فمقاومة اللغة السائدة وقيمها وتمجيدها للاستبداد وتلطّيها خلف قيم أخلاقية مصنوعة من فتات انحطاط اللغة، هو شرط مقاومة الاستبداد والاحتلال.
الذين يقاومون الاستبداد لا يفعلون ذلك من أجل استبدال استبداد عائلي عسكري مافيوي باستبداد اصولي يحمل قيم الاستبداد القديم نفسها بعد تكحيلها بعبارات دينية، والذين يقاومون الاحتلال لا يناضلون من أجل تأبيد سلطة تراعي احتلالا يرعى بذور فسادها واستسلامها.
مجتمعاتنا العربية كلها تعيش مرحلة إعادة تأسيس مقاوماتها، من هنا تأتي ضرورة الربط الوثيق بين مقاومة الاحتلال والاستبداد والدفاع عن حرية التعبير.
المسألة مبدئية وأخلاقية ولا تحتمل التنازلات. البيان الذي وقعه تسعة وتسعون مثقفا فلسطينيا ضد ملاحقة عباد يحيى وروايته يمكن أن يكون نقطة انطلاق من أجل إعادة ربط قضية الحرية بأساسها الواقعي. ففي المجتمع الفلسطيني في الأرض المحتلة الذي بدأت أمراض التفكك تنخره، وبدأت القيم العشائرية تفترسه، بسبب غياب المشروع الوطني المقاوم، على الثقافة أن تلعب دورها كإطار للربط بين معركتي مقاومة الاحتلال والتحرر الاجتماعي. لقد عشنا ظاهرة حجب أسماء المرشحات في لوائح الانتخابات البلدية التي لم تجر، وهي ظاهرة أكثر خطورة وفداحة من كل المشاهد الإباحية في الرواية، لأنها لا تخدش الحياء فقط بل تعلن أن قلة حياء السلطات المتسلطة وصل إلى الذروة.
من جهة أخرى يجب أن نحذر من منزلق ثقافي هو منزلق السقوط في فخ الوجه الآخر من الثقافة السائدة. أي الانخراط في لغة ثقافوية صنعها زمن هيمنة ايديولوجية المانحين الغربيين، التي تسعى إلى فصل الثقافة عن إطارها السياسي والاجتماعي عبر الفصل التعسفي بين حرية الأفراد وحرية المجتمع.
يجب أن نقرأ القمع والمنع في إطارهما الحقيقي، وهما هنا في فلسطين جزء لا يتجزأ من الخنوع للاحتلال عبر تغطيته بمعركة وهمية عنوانها الأخلاق، كما أنه هناك في مصر جزء من انقلاب الاستبداد على ثورة يناير/كانون الثاني، ومحاولة لإعادة المجتمع إلى حظيرة الخنوع والاستسلام.
قبل الشروع في تقديم قراءة نقدية للرواية يجب أن يرفع قرار المنع، كما يجب أن نسمع اعتذارا من وزارة الثقافة الفلسطينية التي عليها أن تجد وسيلة لمنع هذا المنع، وإلا فقدت مبرر وجودها. شرط القراءة هو رفع سيف الاتهامات والتضليل عن الرواية وكاتبها، عندها يصير النقاش ممكنا.
من المؤسف أن يجد النائب العام الفلسطيني ما يخدش الحياء في عمل أدبي. ألا يرى سيادته في التنسيق الأمني مع دولة المستوطنين ما يخدش الحياء؟ أم أن اقتحامات الجيش الإسرائيلي المستمرة لمخيمات ومدن الضفة الخاضعة للمنطقة ألف، أي منطقة السلطة، هي التعبير الأمثل عن الحياء؟
من المحزن أن تصير فلسطين شبيهة بأنظمة الاستبداد العربي، بينما لا تزال تحت الاحتلال. وبذا تفقد فلسطين معناها وفكرتها، ففلسطين هي المقاومة والحرية، وعلى الثقافة الفلسطينية أن تكون طليعة الدفاع عن الحرية في العالم العربي كي تستحق اسمها.
الياس خوري