قضية قابلة للحل… عصية على الشطب أو التهميش

بقلم: عماد شقور

تثبت وقائع واحداث الاسابيع القليلة الماضية، ان قضية فلسطين هي "ام القضايا" جميعا في منطقتنا، وربما في العالم. واستخدم هذا التعبير، رغم ما يثيره في الذاكرة العربية من مرارة، منذ اطلق الرئيس العراقي الراحل، صدام حسين، على مغامرته المدمرة، اسم "ام المعارك"، ذلك ان هذا التوصيف هو الاكثر دِقّة لقضية شعبنا الفلسطيني.
تسعى حكومات اسرائيل منذ انشائها، كما حكومة نتنياهو الحالية بشكل اكبر وبمحاولات اكثر استماتة من كل سابقاتها، إلى شطب القضية الفلسطينية والغاء وجودها، او تخفيض مكانتها، بكل تجلياتها، من موقعها المرتفع والمتقدم على سلم القضايا والاهتمامات الدولية، منذ نشأة هذه القضية، بصيغتها الحالية: النكبة الفلسطينية واقامة دولة اسرائيل عام 1948، وحتى اليوم.الا ان كل هذه المحاولات المتواصلة، ودون أي انقطاع، باءت بالفشل.
بدأت هذه المحاولات بانكار وجود شيء اسمه "الشعب الفلسطيني"، وانتقل بعدها إلى نظرية "الآباء يموتون، والاولاد ينسون"، ثم إلى مرحلة "فلسطين قضية عربية داخلية، والحكام العرب يستخدمون عذابات الفلسطينيين في المخيمات بانتهازية، ويرفضون استيعاب اللاجئين العرب من فلسطين"، وصولا إلى اتهام العالم باجمعه بالتحيز ضد اسرائيل عندم يتم التركيز على معاناة طفيفة للفلسطينيين، ويتجاهلون جرائم اكبر بكثير في سوريا وغيرها.
اصرار الفلسطينيين الاسطوري على نيل حقوقهم، ومقاومتهم بكل سلاح ممكن، من البندقية إلى القلم، وما بينهما، لم تتوقف، والكم الهائل من العدالة في قضيتهم، مقابل الطغيان الاسرائيلي المبالغ فيه إلى درجة الجنون، ادى إلى بقاء "القضية الفلسطينية" في مكانها المرتفع جدا على سلم الاهتمامات الدولية. نأخذ مثلا واضحا على ذلك من التطورات والاحداث قيد التشكل في ايامنا: فالحدث الاهم، دوليا، في الفترة الاخيرة، هو نجاح دونالد ترامب في انتخابات الرئاسة الأمريكية قبل ثلاثة اشهر، وتوليه مقاليد السلطة قبل اقل من اربعة اسابيع، في "الامبراطورية الأمريكية" الاقوى عالميا في العديد من المجالات، وخاصة العسكرية والاقتصادية والتقنية. وبرغم كل احداث العالم المتفجرة: معارك وحروب في، وعلى، العديد من الدول العربية، بتدخلات محلية واقليمية ودولية، نعرف متى وكيف بدأت، ولا يعرف احد متى والى كيف والى ماذا ستنتهي؛ قضية العلاقات والاشتباكات على صعيد الاجهزة الامنية والاستخباراتية الأمريكية الروسية في عهدها الجديد، وكان اول ضحاياها مستشار الامن القومي الأمريكي بعد اقل من شهر على تسلمه لمنصبه؛ والاشتباكات على مستوى المظاهرات الحاشدة في أمريكا (وغيرها) المناوئة والمؤيدة لنجاح وتسلم ترامب لمنصبه، ولما صدر عنه من قرارات واوامر صادمة؛ اضافة لصراعات داخل اروقة البيت الابيض والكونغرس الأمريكي؛ وقضية اوكرانيا والقرم والعقوبات الاقتصادية المتعلقة بها، ومسألة العولمة والتجارة الحرة والتكتلات فيها وحولها؛ والمناكفة مع الصين، على طريقة "اول الرقص حنجلة"؛ والاختلافات والخلافات داخل "البيت الغربي" الذي يشمل أمريكا واوروبا، وقضايا الموقف والصرف على حلفهم العسكري، "حلف شمال الاطلسي"؛ والعديد من القضايا الدولية المتفجرة الأُخرى؛ وبرغم كل هذه القضايا المتفجرة، البالغة الدقة والخطورة، ظلت قضية فلسطين واحدة من القضايا الاولى على رأس سلم القضايا الدولية.
خلال هذه الفترة الزمنية القصيرة جدا، والتي يبدو انها سترسم نظاما عالميا جديدا متعدد الاقطاب، وتحالفات جديدة مع خصوم واعداء الأمس، وخلافات وصراعات مع حلفاء الامس، وبدء رسم خريطة سياسية جديدة لعالمنا، حيث يشكل وصول ترامب إلى سدة الرئاسة في أمريكا، خلفا لعهد لا يشبه العهد الحالي، لا شكلا ولا مضمونا، ومن أي زاوية يتم منها النظر ومراقبة الاحداث على الصعيد الدولي، اصبح "البيت الابيض" هو مركز دائرة هذه الاحداث مجتمعة.
مركز الدائرة هذا، شهد خلال الفترة القصيرة الاخيرة التي تحسب بالاسابيع القليلة، حتى لا نقول بالايام، شهد الاحداث التالية:
ـ زيارة غير معلنة للملك الاردني، عبدالله الثاني، إلى واشنطن، تلتها بعد ايام معدودة "زيارة عمل"، التقى خلالها بالرئيس الجديد ترامب، وباركان الادارة الأمريكية، وتلقى خلالها دعوة من ترامب للقيام بـ"زيارة رسمية" إلى البيت الابيض. وغني عن القول ان كثيرا من قضايا المنطقة والاقليم كانت على بساط البحث، الا ان "القضية الفلسطينية" ومتفرعاتها، والقدس اولها، كانت هي القضية الاولى في الزيارتين، وستكون كذلك في الزيارة التالية.
ـ وفود فلسطينية وأمريكية في الاتجاهين، بين رام الله وواشنطن، كان آخرها زيارة رئيس السي آي ايه إلى رام الله، ولقائه الرئيس الفلسطيني ابو مازن، مساء الثلاثاء الماضي.
ـ زيارة نتنياهو الحالية لواشنطن، وزيارة وزير الدفاع الاسرائيلي، افيغدور ليبرمان،لأمريكا التي تبدأ اليوم.
قضية تستقطع كل هذا الوقت من زمن الادارة الأمريكية، ومن زمن رئيس الدولة الاقوى في العالم، في الاسابيع الاولى من بداية "العهد الجديد"، هي قضية دولية مركزية بامتياز، عصية على القتل او التهميش. ودعونا نرجو ان لا تصاب باعراض الرغبة في الانتحار.
ثم، إلى جوهر زيارة نتنياهو إلى البيت الابيض. فقد سبق لنتنياهو قبل مغادرته لاسرائيل التحذير من أي مواجهة مع ترامب، وما في ذلك من دلالة واضحة على تخوف حقيقي، مغطى باكوام كثيرة من التفاؤل والامل الكاذب، في اعتقادي، بعهد الادارة الأمريكية الجديدة. وفي المؤتمر الصحافي المشترك لترامب ونتنياهو، الذي عقد قبل جلسة المحادثات "باربعة اعين"، ثم بحضور المستشارين، قيل كلام كثير "حمال اوجه"، موجه للاستهلاك الاعلامي، وان كان فيه تلميحات غير قليلة، تشير إلى اتجاه الرياح الجديدة في واشنطن، وهي ليست اكثر ضررا لمصالحنا من رياح أمريكية سابقة، في اسوأ الحالات، وقد تكون في غير صالح اسرائيل على المدى المتوسط، ربما، وفي غير صالحها على المدى البعيد، بالتأكيد.
في المؤتمر الصحافي مجاملات وابتسامات وغزَل متبادل. بعد اللقاء المغلق في المكتب البيضاوي، قال نتنياهو للصحافيين الاسرائيليين المرافقين له، بالنص: "حين يطلب رئيس ودود إلى هذا الحد امراً، فانه يتوجب علينا التفكير جدياً في وقف البناء في الضفة الغربية. الحقيقة هي اننا امام تجميد جديد للبناء".
هذا الطلب الأمريكي، الذي كان يتمرد عليه نتنياهو عندما يطلبه الرئيس الأمريكي السابق، و"يتنمرد" عليه، اذعن له بالكامل عندما طلبه/امره ترامب. لكن في طياته باب هرب، وهو استخدام تعبير "الضفة الغربية" التي لا تشمل القدس في قاموسه.
بعد هذا: مسألة "حل الدولتين" الذي لا يرى فيه ترامب الحل الممكن الوحيد.
في اعتقادي ان هذه الموقف الأمريكي جيد، ومفيد ايضا. ان مسألة اقامة دولة فلسطينية مستقلة على 22٪ فقط من ارض فلسطين التاريخية، هي مساحة ما تم احتلاله/استعماره من فلسطين في حرب حزيران 1967، لم يكن الخيار الفلسطيني الوطني الاول اثر تلك الحرب. كان الخيار الفلسطيني الوطني الاول هو دولة واحدة على كل ارض فلسطين التاريخية دون أي تمييز عنصري. واذ رفضت اسرائيل بكل اطيافها هذا الموقف الفلسطيني المعلن، جرى وضع بديل آخر هو "اقامة دولة فلسطينية مستقلة" على أي جزء يتم تحريره او يجلي عنه الاستعمار/الاحتلال الاسرائيلي".
قد يكون مفيدا التعامل الفلسطيني الرسمي مع هذا الموضوع بهدوء وروية: مع فرنسا، صاحبة المبادرة الاخيرة، ومع الغرب والشرق والامم المتحدة بشكل عام، التأكيد اننا نقبل بحل الدولتين، ولا نضع عصيا في الدواليب، لكن دولة للجميع دون أي نوع من انواع التمييز، هو حل آخر انساني نرى فيه مصلحلة لنا.
في مثل هذا الحل ستكون اسرائيل امام خيارين: دولة ابارتهايد يهودية غير قابلة للحياة ولا مستقبل لها، او دولة ديمقراطية غير يهودية، الامر الذي يعني اصابة قاتلة لاسرائيل وللمشروع الصهيوني بكامله.

عماد شقور

٭ كاتب فلسطيني